تنبيه : هذا الخطاب يدل على أنه لا يكون على المؤمنين عسيرا جاء في الحديث "أنه يهون يوم القيامة على المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا" وقوله تعالى :
﴿ويوم يعض الظالم﴾ أي : المشرك لفرط تأسفه لما يرى فيه من الأهوال، معمول لمحذوف أو معطوف على يوم تشقق، وأل في الظالم تحتمل العهد والجنس لكن قال ابن عباس : أراد بالظالم عقبة بن أبي معيط بن أمية بن عبد شمس كان لا يقدم من سفر إلا صنع طعاماً
١٦
ودعا إليه جهراً جيرانه وأشراف قومه، وكان يكثر مجالسة النبي ﷺ ويعجبه حديثه، فقدم ذات يوم من سفر فصنع طعاماً ودعا الناس ودعا النبي ﷺ فلما قرب الطعام قال النبي ﷺ "ما أنا بآكل طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله"، فقال عقبة : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فأكل ﷺ من طعامه، وكان عقبة صديقاً لأبي بن خلف، فلما أتى أبيّ بن خلف قال له : يا عقبة صبأت ؟
فقال : لا والله ما صبأت، ولكن دخل علي رجل فأبى أن يأكل طعامي إلا أن أشهد له، فاستحيت أن يخرج من بيتي ولم يطعم، فشهدت له فطعم، والشهادة ليست في نفسي، فقال : ما أنا بالذي أرضى منك أبداً إلا أن تأتيه وتبصق في وجهه وتطأ قفاه وتلطم وجهه وعينه، فوجده ساجداً في دار الندوة ففعل ذلك عقبة، فقال النبي ﷺ "لا ألقاك خارجاً من مكة إلا علوت رأسك بالسيف" فقتل عقبة يوم بدر صبراً أمر علياً رضي الله عنه فقتله، وقيل : قتله عاصم بن ثابت بن أفلح الأنصاري، وأما أبي بن خلف فقتله النبي ﷺ بيده يوم أحد طعنه في المبارزة فرجع إلى مكة ومات.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٤
قال الضحاك : لما بصق عقبة في وجه النبي ﷺ عاد بصاقه في وجهه فاحترق خداه، فكان أثر ذلك فيه حتى مات، وقال الشعبي : كان عقبة خليل أمية، فأسلم عقبة فقال أمية : وجهي من وجهك حرام إن بايعت محمداً، فكفر وارتد، فأنزل الله تعالى :﴿ويوم يعض الظالم﴾ أي : عقبة ﴿على يديه﴾ قال الضحاك : يأكل يديه إلى المرفق، ثم تنبت ولا يزال هكذا كلما أكلها نبتت، وقال المحققون : هذه اللفظة للتحسر والغم يقال : عض أنامله وعض على يديه وهو لا يشعر حال كونه مع هذا الفعل ﴿يقول﴾ : أي : يجدد في كل لحظة قوله :﴿يا ليتني اتخذت﴾ أي : أرغمت نفسي وكلفتها أن آخذ في الدنيا ﴿مع الرسول﴾ أي : محمد ﷺ ﴿سبيلاً﴾ أي : طريقاً إلى الهدى، ولما تأسف على مجانبة الرسول ندم على مصادقة غيره بقوله :
﴿يا ويلتي﴾ أي : يا هلاكي الذي ليس لي منادم غيره ؛ لأنه ليس يحضرني سواه ﴿ليتني لم أتخذ فلاناً﴾ أي : أبياً ﴿خليلاً﴾ أي : صديقاً أوافقه في أعماله لما علمت من سوء عاقبتها، فكنى عن اسمه وإن أريد به الجنس، فكل من اتخذ من المضلين خليلاً كان لخليله اسم علم عليه لا محالة فجعله كناية عنه، وقرأ أبو عمرو بفتح الياء، والباقون بالسكون، وأظهر الدال عند التاء ابن كثير وحفص، وأدغمها الباقون ثم استأنف قوله : الذي يتوقع كل سامع أن يقوله :
﴿لقد﴾ أي : والله لقد ﴿أضلني عن الذكر﴾ أي : عمى علي طريق القرآن الذي لا ذكر في الحقيقة غيره وصرفني عنه، والجملة في موضع العلة لما قبلها ﴿بعد إذ جاءني﴾ ولم يكن لي منه مانع يردني عن الإيمان به، وقرأ نافع وابن ذكوان وعاصم بإظهار الذال، والباقون بالإدغام وقوله تعالى :﴿وكان الشيطان﴾ إشارة إلى خليله سماه شيطاناً ؛ لأنه أضله كما يضل الشيطان، أو إلى كل من كان سبباً للضلال من عتاة الجن والإنس ﴿للإنسان خذولاً﴾ أي :
شديد الخذلان يورده ثم يسلمه إلى أكره ما يكون لا ينصره ولو أراد ما استطاع بل هو في شر من ذلك ؛ لأن عليه إثمه في نفسه، ومثل إثم من أضله.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٤
تنبيه : حكم هذه الآية عام في كل خليلين ومتحابين اجتمعا على معصية الله تعالى قال ﷺ "مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك
١٧
وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحاً خبيثة" وقال ﷺ "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" وقال ﷺ "لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي"، ولما ذكر تعالى أقوال الكفار ذكر قول رسوله محمد ﷺ بقوله تعالى :
﴿وقال الرسول يا رب﴾ أي : أيها المحسن إليّ بأنواع الإحسان وعبر بأداة البعد هضماً لنفسه، ومبالغة في التضرع ﴿إن قومي﴾ أي : قريشاً الذين لهم قوة ومنعة ﴿اتخذوا هذا القرآن﴾ أي : المقتضي للإجماع عليه والمبادرة إليه ﴿مهجوراً﴾ أي : متروكاً بعيداً لم يؤمنوا به ولم يقبلوه، وأعرضوا عن استماعه.


الصفحة التالية
Icon