تنبيه : أشار بصيغة الافتعال إلى أنهم عالجوا أنفسهم في تركه علاجاً كثيراً لما يرون من حسن نظمه ويذوقون من لذيذ معانيه ورائق أساليبه، ولطيف عجائبه وبديع غرائبه، وأكثر المفسرين على أن هذا القول وقع من النبي ﷺ وقال أبو مسلم : بل المراد أنه يقوله في الآخرة كقوله تعالى :﴿فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد﴾ (النساء، ٤١)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٧
الآية، والأول أولى ؛ لأن قوله تعالى :
﴿وكذلك﴾ أي : كما جعلنا لك عدواً من مشركي قومك ﴿جعلنا لكل نبي﴾ من الأنبياء قبلك رفعة
١٨
لدرجاتهم ﴿عدواً من المجرمين﴾ أي : من المشركين تسليةً له ﷺ كأنه تعالى يقول له : فاصبر كما صبروا، ولا يكون ذلك إلا إذا وقع القول منه ﴿وكفى بربك﴾ أي : المحسن إليك ﴿هادياً﴾ أي : يهدي بك من قضى بسعادته ﴿ونصيراً﴾ أي : ينصرك على من حكم بشقاوته.
تنبيه : احتج أهل السنة بهذه الآية على أنه تعالى خلق الخير والشر ؛ لأن قوله تعالى :﴿لكل نبي عدواً﴾ يدل على أن تلك العداوة من جعل الله تعالى وتلك العداوة كفر، فإن قيل : قوله تعالى :﴿يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً﴾ كقول نوح عليه السلام :﴿رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً فلم يزدهم دعائي إلا فراراً﴾ (نوح : ٥، ٦)
فكما أن المقصود من هذا إنزال العذاب، فكذلك ما هنا فكيف يليق هذا بمن وصفه الله تعالى بالرحمة في قوله تعالى :﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾ (الأنبياء، ١٠٧)
أجيب : بأن نوحاً عليه السلام لما ذكر ذلك دعا عليهم، وأما النبي ﷺ لما ذكر هذا لم يدع عليهم، بل انتظر فلما قال تعالى :﴿وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً﴾ كان ذلك كالأمر له بالصبر على ذلك وترك الدعاء عليهم فافترقا.
الشبهة الخامسة : لمنكري النبوة ما حكاه الله تعالى عنهم بقوله تعالى :
﴿وقال الذين كفروا﴾ أي : الذين غطوا عداوة وحسداً ما تشهد عقولهم بصحته من أن القرآن كلام الله تعالى لإعجازه لهم مفرقاً فضلاً عن كونه مجتمعاً ﴿لولا﴾ أي : هلا ﴿نزل عليه القرآن﴾ أي : أنزل كخير بمعنى أخير ؛ لئلا يناقض قولهم ﴿جملة﴾ وأكدوا بقولهم ﴿واحدة﴾ أي : من أوله إلى آخره كما أنزلت التوراة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود لتحقق أنه من عند الله تعالى، ويزول عنا ما نتوهمه من أنه الذي يرتبه قليلاً قليلاً، وهذا الاعتراض في غاية السقوط ؛ لأن الإعجاز لا يتخلف بنزوله جملة أو متفرقاً مع أن للتفريق فوائد منها :
ما أشار إليه بقوله تعالى :﴿كذلك﴾ أي : أنزلناه شيئاً فشيئاً على هذا الوجه العظيم الذي أنكروه ﴿لنثبت﴾ أي : نقوي ﴿به فؤادك﴾ أي : قلبك فتعيه وتحفظه ؛ لأن المتلقن إنما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئاً فشيئاً وجزءاً عقب جزء، ولو ألقي عليه جملة واحدة لتعيا بحفظه والرسول ﷺ فارقت حاله حال داود وموسى عليهم السلام وعيسى حيث كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وهم كانوا قارئين كاتبين، فلم يكن له بد من التلقن والتحفظ، فأنزله الله عليه منجماً في عشرين سنة، وقيل : في ثلاث وعشرين سنة، وأيضاً فكان ينزل على حسب الحوادث وجوابات السائلين ؛ ولأن بعضه منسوخ وبعضه ناسخ، ولا يتأتى ذلك إلا فيما أنزل مفرقاً.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٧
فإن قيل : ذا في كذلك يجب أن يكون إشارة إلى شيء تقدمه، والذي تقدم هو إنزاله جملة، فكيف فسر كذلك بأنزلناه مفرقاً ؟
أجيب : بأن الإشارة إلى الإنزال مفرقاً لا إلى جملة، والدليل على فساد هذ الاعتراض أيضاً أنهم عجزوا عن أن يأتوا بنجم واحد من نجومه، وتحدوا بسورة واحدة من أقصر السور فأبرزوا صفحة عجزهم وسجلوا به على أنفسهم حين لاذوا بالمناصبة وفزعوا إلى المجاذبة، ثم قالوا : هلا نزل جملة واحدة ؟
كأنهم قدروا على تفاريقه حتى يقدروا على جملته، وقوله تعالى :﴿ورتلناه ترتيلاً﴾ معطوف على الفعل الذي تعلق به كذلك كأنه قال تعالى : كذلك فرقناه ورتلناه ترتيلاً، ومعنى ترتيله قال ابن عباس : بيناه بياناً، والترتيل التبيين في تؤدة وتثبت، وقال السدي : فصلناه تفصيلاً، وقال مجاهد : بعضه في إثر بعض، وقال الحسن : تفريقاً آية بعد آية ووقعة عقب وقعة، ويجوز أن يكون المعنى : وأمرنا بترتيل قراءته، وذلك قوله تعالى :﴿ورتل القرآن
١٩
ترتيلاً﴾
(المزمل، ٤)
أي : اقرأه بترتل وتثبت.
ومنه حديث عائشة رضي الله تعالى عنها في صفة قراءته : لا كسردكم هذا لو أراد السامع أن يعد حروفه لعدها، وقيل : هو أن ننزله مع كونه متفرقاً على تمكث وتمهل في مدة متباعدة، وهي عشرون سنة، ولم نفرقه في مدة متقاربة، ولما كان التقدير قد بطل ما أتوا به من هذا الاعتراض عطف عليه.


الصفحة التالية
Icon