﴿ولا يأتونك﴾ أي : يا أشرف الخلق أي : المشركون ﴿بمثل﴾ أي : باعتراض في إبطال أمرك يخيلون به لعقول الضعفاء يجتهدون في تنميقه وتحسينه وتدقيقه حتى يصير عندهم في غاية الحسن والرشاقة لفظاً ومعنى ﴿إلا جئناك﴾ في جوابه ﴿بالحق﴾ أي : الذي لا محيد عنه، فيزهق ما أتوا به لبطلانه، فسمى ما يوردون من الشبه مثلاً، وسمى ما يدفع به الشبه حقاً ﴿وأحسن﴾ أي : من مثلهم ﴿تفسيراً﴾ أي : بياناً وتفصيلاً، ولما كان التفسير هو التكشيف عما يدل عليه الكلام وضع موضع معناه، فقالوا : تفسير هذا الكلام كيت وكيت كما قيل : معناه كذا وكذا، أو لا يأتونك بحال وصفة عجيبة يقولون : هلا كانت هذه صفتك وحالك ؟
نحو أن يقرن بك ملك ينذر معك أو يلقي إليك كنز، أو تكون لك جنة، أو ينزل عليك القرآن جملة واحدة إلا أعطيناك نحن من الأحوال ما يحق لك في حكمتنا ومشيئتنا أن تعطاه وما هو أحسن تكشيفاً لما بعثت عليه ودلالة على صحته، ثم بين تعالى : حال هؤلاء المعاندين في الآخرة بقوله تعالى :
﴿الذين﴾ أي : هم الذين ﴿يحشرون﴾ أي : يجمعون قهراً ماشين مقلوبين ﴿على وجوههم﴾ مسحوبين ﴿إلى جهنم﴾ أي : كما أنهم لم ينظروا في الدنيا بعين الإنصاف فإن الآخرة مرآة الدنيا مهما عمل هنا رآه هناك كما أن الدنيا مزرعة الآخرة مهما عمل فيها جنى ثمره هناك. روى البخاري أن رجلاً قال :"يا نبي الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة ؟
قال : الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادر أن يمشيه على وجهه يوم القيامة"، وروى البيهقي :"يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف : صنف على الدواب، وصنف على الوجوه، وصنف على الأقدام"، ولما وصف الله تعالى المتعنتين في أمر القرآن بهذا الوصف استأنف الإخبار عنهم بقوله تعالى :﴿أولئك﴾ أي : البعداء البغضاء ﴿شر﴾ أي : شر الخلق ﴿مكاناً﴾ هو جهنم ﴿وأضل سبيلاً﴾ أي : أخطأ طريقاً من غيرهم وهو كفرهم، ولما قال تعالى ﴿وكذلك جعلنا لكل نبي عدوّاً من المجرمين﴾، وذكر ذلك في معرض التسلية له ﷺ ذكر قصص جماعة من الأنبياء، وعرفه تكذيب أممهم زيادة في تسليته، القصة الأولى : قصة موسى عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٧
ولقد آتينا﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿موسى الكتاب﴾ أي : التوراة ﴿وجعلنا معه أخاه هارون وزيراً﴾ أي : معيناً، فإن قيل : كونه وزيراً كالمنافي لكونه شريكاً له في النبوّة والرسالة ؟
أجيب : بأنه لا منافاة بين النبوّة والرسالة والوزارة قد كان يبعث في الزمن الواحد أنبياء متعددون، ويؤمرون بأن يؤازر بعضهم بعضاً.
تنبيه : هارون بدل أو بيان أو منصوب على القطع ووزيراً مفعول ثان، وقيل : حال والمفعول الثاني معه ويدل على رسالة هارون عليه السلام قوله تعالى :
﴿فقلنا اذهبا إلى القوم﴾ أي : الذين فيهم قوة
٢٠
وقدرة على ما يعانونه وهم القبط فرعون وقومه ﴿الذين كذبوا بآياتنا﴾ فذهبا إليهم بالرسالة فكذبوهما ﴿فدمرناهم تدميراً﴾ أي : أهلكناهم إهلاكاً أي : فأنت يا محمد لست أوّل من كذب من الرسل فلك أسوة بمن قبلك، فإن قيل : الفاء للتعقيب والإهلاك لم يحصل عقب بعثة موسى وهارون إليهم بل بعده بمدة مديدة ؟
أجيب : بأن فاء التعقيب محمولة هنا على الحكم بإهلاكهم لا على الوقوع أو على أنه على إرادة اختصار القصة فاقتصر على حاشيتيها أي : أولها وآخرها لأنهما المقصودان من القصة بطولها أعني إلزام الحجة ببعثة الرسل واستحقاق التدمير بتكذيبهم.
تنبيه : قوله تعالى : كذبوا بآياتنا إن حملنا تكذيب الآيات على الآيات الإلهية فهو ظاهر، وإن حملناه على تكذيب آيات النبوّة فاللفظ، وإن كان للماضي فالمراد به المستقبل، القصة الثانية : قصة نوح عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :
﴿وقوم﴾ أي : ودمرنا قوم ﴿نوح لما كذبوا الرسل﴾ كأنهم كذبوا نوحاً ومن قبله من الرسل صريحاً أو كان تكذيبهم لواحد منهم تكذيباً للجميع بالقوة، لأن المعجزات هي البرهان على صدقهم وهي متساوية الأقدام في كونها خوارق لا يقدر على معارضتها فالتكذيب بشيء منها تكذيب للجميع أولم يروا بعثة الرسل أصلاً كالبراهمة وهم قوم يمنعون بعثة الرسل نسبوا إلى رجل يقال له برهام قد مهد لهم ذلك وقرره في عقولهم، ولأنهم عللوا تكذيبهم بأنه من البشر فلزمهم تكذيب كل رسول من البشر، ثم بين تعالى تدميرهم بقوله تعالى :﴿أغرقناهم﴾ قال الكلبي : أمطرنا عليهم السماء أربعين يوماً، وأخرج ماء الأرض أيضاً في تلك الأربعين، فصارت الأرض بحراً واحداً ﴿وجعلناهم﴾ أي : قوم نوح في ذلك ﴿للناس آية﴾ أي : لمن بعدهم عبرة ليعتبر كل من سلك طريقهم ﴿وأعتدنا﴾ أي : هيأنا في الآخرة ﴿للظالمين﴾ أي : للكافرين، وكان الأصل لهم ولكنه تعالى أظهر تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف ﴿عذاباً أليماً﴾ أي : مؤلماً سوى ما يحل بهم في الدنيا. القصة الثالثة : قصة هود عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٧