سورة العنكبوت
مكية إلا عشر آيات من أوّلها إلى قوله تعالى ﴿وليعلمنّ المنافقين﴾
قال الحسن : فإنها مدنية وهي سبع وستون آية، وألف وتسعمائة وإحدى وثمانون كلمة، وأربعة آلاف وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفاً.
﴿بسم الله﴾ الذي أحاط بجميع القوة فأعز جنده ﴿الرحمن﴾ الذي شمل جميع العباد بنعمه ﴿الرحيم﴾ بجميع خلقه وقوله تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٧٤
﴿ألم﴾ سبق القول فيه في أوّل البقرة، ووقوع الاستفهام بعده دليل على استقلاله بنفسه فيكون اسماً للسورة، أو للقرآن، أو لله، أو أنه سرّ استأثر بعلمه الله تعالى، أو استقلالِه بما يضمر معه بتقديره مبتدأ أو خبراً وغيره مما مرّ أوّل سورة البقرة، وقيل في ألم أشار بالألف الدال على القائم إلا على المحيط، ولام الوصلة وميم التمام بطريق الرمز إلى أنه تعالى أرسل جبريل إلى محمد عليهما الصلاة والسلام، ولما قال تعالى في آخر السورة المتقدّمة ﴿وادع إلى ربك﴾ (القصص : ٨٧) وكان في الدعاء
١٧٥
إليه الحراب والضراب والطعان لأنّ النبي ﷺ وأصحابه كانوا مأمورين بالجهاد فشق على البعض ذلك فقال تعالى :
﴿أحسب الناس﴾ أي : كافةً ﴿أن يتركوا﴾ أي : أظنوا أنهم يتركون بغير اختبار وابتلاء في وقت ما بوجه من الوجوه تنبيه : أن يتركوا سدّ مسدّ مفعولي حسب عند الجمهور ﴿أن﴾ أي : بأن ﴿يقولوا﴾ أي : بقولهم ﴿آمنا وهم﴾ أي : والحال أنهم ﴿لا يفتنون﴾ أي : يختبرون بما تتميز به حقية إيمانهم بمشاق التكاليف كالمهاجرة والمجاهدة ورفض الشهوات وأنواع المصائب في الأنفس والأموال ليتبين المخلص من المنافق، والصادق من الكاذب، ولينالوا بالصبر عليها عوالي الدرجات فإنّ مجرد الإيمان وإن كان عن خلوص لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في العذاب.
واختلفوا في سبب نزول هذه الآية : فقال الشعبي : نزلت في أناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام ثم هاجروا فتبعهم الكفار فمنهم من قتل ومنهم من نجا فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : إنها نزلت في عمار بن ياسر وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وسلمة بن هشام كانوا يعذبون بمكة.
وقال ابن جريج : نزلت في عمار بن ياسر كان يعذب في الله عز وجل.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٧٥
وقال مقاتل : نزلت في مهجع بن عبد الله مولى عمر كان أوّل قتيل قتل من المسلمين يوم بدر فقال ﷺ سيد الشهداء مهجع وهو أوّل من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة فجزع عليه أبواه وامرأته فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقيل وهم لا يفتنون بالأوامر والنواهي وذلك أنّ الله تعالى أمرهم في الابتداء بمجرد الإيمان ثم فرض عليهم الصلاة والزكاة وسائر الشرائع فشق على بعض فأنزل الله تعالى هذه الآية ثم عزاهم فقال :
﴿ولقد فتنا الذين من قبلهم﴾ أي : من الأنبياء والمؤمنين فمنهم من نشر بالمنشار ومنهم من قتل، وابتلي بنو إسرائيل بفرعون فكان يسومهم سوء العذاب فذلك سنة قديمة جارية في الأمم كلها فلا ينبغي أن يتوقع خلافه ﴿فليعلمنّ الله﴾ أي : الذي له الكمال كله ﴿الذين صدقوا﴾ في إيمانهم علم مشاهدة للخلق وإلا فالله تعالى لا يخفى عليه خافية ﴿وليعلمن الكاذبين﴾ فيه أي : فيظهر الله الصادقين من الكاذبين في الإيمان.
(فائدة) لبعض المحبين :
*للهوى آية (أي علامة) بها يعرف الصا ** دق في عشقه من الكذاب *
*سهر الليل دائماً ونحول ال ** جسم والموت في رضا الأحباب **
﴿أم حسب﴾ أي : ظن ﴿الذين يعلمون السيئات﴾ أي : الشرك والمعاصي، فإن العمل يعم أفعال القلوب والجوارح ﴿أن يسبقونا﴾ أي : يفوتونا فلا ننتقم منهم، وهذا ساد مسدّ مفعولي حسب. وأم منقطعة والإضراب فيها لأنّ هذا الحساب أبطل من الأوّل لأنّ صاحب ذلك يقدر أن لا يمتحن لإيمانه وصاحب هذا يظن أن لا يجازى بمساويه، ولهذا عقبه بقوله تعالى :﴿ساء ما يحكمون﴾ أي : بئس الذي يحكمونه، أو حكماً يحكمونه، حكمهم هذا فحذف المخصوص بالذم، ولما بين بقوله :﴿أحسب الناس أن يتركوا﴾ أن العبد لا يترك في الدنيا سدى، وبين في قوله تعالى :
﴿أم حسب الذين يعملون السيئات﴾ أن من ترك ما كلف به يعذب عذاباً بين أن من يعترف
١٧٦
بالآخرة ويعمل لها لا يضيع عمله بقوله تعالى :
﴿من كان يرجو لقاء الله﴾ أي : الملك الأعلى، قال ابن عباس ومقاتل : من كان يخشى البعث والحساب والرجاء بمعنى الخوف، وقال سعيد بن جبير : من كان يطمع في ثواب الله ﴿فإن أجل الله﴾ أي : الوقت المضروب للقائه ﴿لآت﴾ أي : لجاءٍ لا محالة فإنه لا يجوز عليه إخلاف الوعد، فإن قيل : كيف وقع فإن أجل الله لآت جواباً للشرط ؟
أجيب : بأنه إذا كان وقت اللقاء آتياً كان اللقاء آتياً لا محالة كما تقول من كان يرجو لقاء الملك فإن يوم الجمعة قريب، إذا علم أنه يقعد للناس يوم الجمعة، وقال مقاتل يعني : يوم القيامة لكائن ومعنى الآية أن من يخشى الله تعالى ويأمله فليستعد له وليعمل لذلك اليوم كما قال تعالى :﴿فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً﴾ (الكهف : ١١٠)
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٧٥
وهو السميع﴾
أي : لما قالوه ﴿العليم﴾ يعلم من صدق فيما قال ومن كذب فيثيب ويعاقب على حسب علمه، قال الرازي : وههنا لطيفة وهي أنّ للعبد أموراً هي أصناف حسناته عمل قلبه وهو التصديق وهو لا يرى ولا يسمع وإنما يعلم، وعمل لسانه وهو يسمع، وعمل أعضائه وجوارحه وهو يرى فإذا أتى بهذه الأشياء يجعل الله تعالى لمسموعه ما لا أذن سمعت، ولمرئيه ما لا عين رأت ولعمل قلبه ما لا خطر على قلب بشر كما وصف في الخبر في وصف الجنة اه.


الصفحة التالية
Icon