(تنبيه) لم يذكر الله تعالى من الصفات غير هذين الصفتين كالعزيز والحكيم وذلك لأنه سبق القول في قوله ﴿أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمناً ﴾ وسبق الفعل بقوله تعالى :﴿وهم لا يفتنون ﴾ وبقوله تعالى :﴿فليعلمن الله الذين صدقوا﴾ وبقوله تعالى :﴿أم حسب الذين يعملون السيئات ﴾ ولا شك أن القول يدرك بالسمع، والعمل منه ما يدرك بالبصر ومنه ما لا يدرك به كما علم مما مرّ والعلم يشملها، ولما بين تعالى أنّ التكليف حسن واقع وإن عليه وعداً وإيعاد ليس لهما دافع بين أن طلب الله تعالى ذلك من المكلف ليس لنفع يعود إليه بقوله تعالى :
﴿ومن جاهد﴾ أي : بذل جهده في جهاد حرب أو نفس حتى كأنه يسابق آخر في الأعمال الصالحة ﴿فإنما يجاهد لنفسه﴾ لأنّ منفعة جهاده له لا لله تعالى فإنه غني مطلق كما قال تعالى :﴿إن الله﴾ أي : المتصرّف في عباده بما شاء ﴿لغنيّ عن العالمين﴾ أي : الأنس والجنّ والملائكة وعن عبادتهم ومثل هذا كثير في القرآن كقوله تعالى :﴿من عمل صالحاً فلنفسه﴾ (فصلت : ٦)
وقوله تعالى :﴿إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم﴾ (الإسراء : ٧)
فينبغي للعبد أن يكثر من العمل الصالح ويخلصه لأنّ من عمل فعلاً يطلب به ملكاً ويعلم أنّ الملك يراه يحسن العمل ويتقنه، وإذا علم أن عمله لنفسه لا لأحد يكثر منه، نسأل الله الكريم الفتاح أن يوفقنا للعمل الصالح وأن يفعل ذلك بأهلينا وذريتنا ومحبينا بمحمد وآله، ولما بين تعالى حال المسيء مجملاً بقوله تعالى :﴿أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا﴾ إشارة إلى التعذيب مجملاً، وذكر حال المحسن بقوله تعالى :﴿ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه ﴾ وكان التقدير فالذين جاهدوا والذين عملوا السيئات لنجزينهم أجمعين ولكنه طواه لأن السياق لأهل الرجاء عطف عليه قوله تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٧٥
﴿والذين آمنوا وعملوا﴾ تصديقاً لإيمانهم ﴿الصالحات﴾ أي : في الشدة والرخاء على حسب طاقتهم وفي ذلك إشارة إلى أن رحمته تعالى أتم من غضبه وفضله أتم من عدله وأشار بقوله تعالى :﴿لنكفرنّ عنهم سيئاتهم﴾ إلى أن الإنسان وإن اجتهد لا بد من أن يزل عن الطاعة لأنه مجبول على
١٧٧
النقص :"فالصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما لم تؤت الكبائر، والجمعة، إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان" ونحو ذلك مما وردت به الأخبار عن النبيّ ﷺ المختار، فالصغائر تكفر بعمل الصالحات، وأما الكبائر فتكفر بالتوبة، ولما بشرهم بالعفو عن العقاب أتم البشرى بالامتنان بالثواب فقال عاطفاً على ما تقديره ولنثبتنّ لهم حسناتهم ﴿ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون﴾ أي : أحسن جزاء ما عملوه وهو الصالحات، وأحسن نصب بنزع الخافض وهو الباء، ولما كان من جملة العمل الصالح الإحسان إلى الوالدين ذكر ذلك بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٧٧
ووصينا الإنسان بوالديه﴾ أي : وإن عليا ﴿حسناً﴾ أي : برّاً بهما وعطفاً عليهما أي : وصيناه بإيتاء والديه حسناً أو بإيلاء والديه حسناً لأنهما سبب وجود الولد وسبب بقائه بالتربية المعتادة والله تعالى سبب له في الحقيقة بالإرادة وسبب بقائه بالإعادة للسعادة فهو أولى بأن يحسن العبد حاله معه، فيطيعهما ما لم يأمراه بمعصية الله تعالى كما قال : تعالى :﴿وإن جاهداك لتشرك بي﴾ وقوله تعالى ﴿ما ليس لك به علم﴾ أي : لا علم لك بإلهيته موافق للواقع فلا مفهوم له أو أنه إذا كان لا يجوز أن يتبع فيما لا يعلم صحته فبالأولى أن لا يتبع فيما يعلم بطلانه ﴿فلا تطعهما﴾ في ذلك كما جاء في الحديث :"لا طاعة لمخلوق في معصية الله تعالى" ولا بد من إضمار القول إن لم يضمر قبل، ثم علل ذلك بقوله تعالى :﴿إليّ مرجعكم﴾ أي : من آمن منكم ومن كفر ومن برّ والديه ومن عق، ثم تسبب عنه قوله تعالى :﴿فأنبئكم بما كنتم تعلمون﴾ أي : أخبركم بصالح أعمالكم وسيئها فأجازيكم عليها نزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقاص الزهري وأمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس :"روي أنها لما سمعت بإسلامه قالت له : يا سعد بلغني أنك قد صبأت فوالله لا يظلني سقف بيت من الضِّح ـ وهو بكسر الضاد المعجمة وبحاء مهملة الشمس ـ والريح، وإن الطعام والشراب عليّ حرام حتى تكفر بمحمد وكان أحب أولادها إليها فأبى سعد ولبثت ثلاثة أيام لا تنتقل من الضح ولا تأكل ولا تشرب فلم يطعها سعد بل قال : والله لو كانت مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما كفرت بمحمد ﷺ ثم جاء سعد إلى النبيّ ﷺ وشكا إليه فنزلت هذه الآية وهي التي في لقمان والتي في الأحقاف فأمره ﷺ "أنْ يداريها ويترضاها بالإحسان".