﴿وقارون﴾ أي : وأهلكنا قارون وقومه لأنّ وقوعه في أسباب الهلاك أعجب لكونه من بني إسرائيل ولأنه ابتلي بالمال والعلم فكان ذلك سبب إعجابه فتكبر على موسى وهارون عليهما السلام فكان ذلك سبب هلاكه ﴿وفرعون وهامان﴾ وزيره الذي أوقد له على الطين فباع سعادته ليكونه ذنباً لغيره ﴿ولقد جاءهم﴾ من قبل ﴿موسى بالبينات﴾ أي : بالحجج الظاهرات التي لم تدع لبساً ﴿فاستكبروا﴾ أي : طلبوا أن يكونوا أكبر من كل كبير بأن كانت أفعالهم أفعال من يطلب ذلك ﴿في الأرض﴾ بعد مجيء موسى عليه السلام إليهم أكثر مما كانوا قبله ﴿وما كانوا سابقين﴾ أي : فائتين بل أدركهم أمر الله، مِنْ سبق طالبه إذا فاته.
﴿فكلاً﴾ أي : فتسبب عن تكذيبهم أنّ كلاً ﴿أخذنا﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿بذنبه﴾ أي : أخذ عقوبة ليعلم أنه لا أحد يعجزنا ﴿فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً﴾ أي : ريحاً عاصفاً فيها حصباء كقوم لوط وعاد ﴿ومنهم من أخذته الصيحة﴾ أي : التي تظهر شدتها الريح الحاملة لها الموافقة لقصدها فترجف لعظمتها الأرض كمدين وثمود ﴿ومنهم من خسفنا به الأرض﴾ أي : غيبناه فيها كقارون وجماعته ﴿ومنهم من أغرقنا﴾ بالغمر في الماء كقوم نوح وفرعون وقومه وعذاب قوم صالح المعدّ في الإغراق والمعدّ في الخسف فتارة يهلك بريح تقذف بالحجارة من السماء كقوم لوط أو من الأرض كعاد ﴿وما كان الله﴾ أي : الذي لا شيء من الجلال والكمال إلا له ﴿ليظلمهم﴾ أي : فيعذبهم بغير ذنب ﴿ولكن كانوا أنفسهم﴾ لا غيرها ﴿يظلمون﴾ بارتكاب المعاصي ولم يقبلوا النصح مع هجرهم، ولا خافوا العقوبة على ضعفهم، ولما بين تعالى أنه أهلك من أشرك عاجلاً وعذب من كذب آجلاً ولم ينفعه معبوده مثل تعالى اتخاذه ذلك معبوداً باتخاذ العنكبوت بيتاً فقال :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٩٤
مثل الذين اتخذوا﴾
أي : تكلفوا أن اتخذوا ﴿من دون الله﴾ أي : الذي لا كفء له فرضوا بالدون الذي لا ينفع ولا يضرّ عوضاً عمن لا تكيفه الأوهام والظنون ﴿أولياء﴾ ينصرونهم بزعمهم من معبودات وغيرها في الضعف والوهن.
١٩٤
﴿كمثل العنكبوت﴾ أي : الدابة المعروفة ذات الأرجل الكثيرة الطوال ﴿اتخذت بيتاً﴾ أي : تكلفت أخذه في صنعتها له ليقيها الردى ويحميها البلاء كما تكلف هؤلاء اصطناع أربابهم ليقوهم ويحفظوهم بزعمهم فكان ذلك البيت مع تكلفها في أمره وتعبها الشديد في شأنه في غاية الوهن ﴿وإن﴾ أي : والحال إن ﴿أوهن البيوت﴾ أي : أضعفها ﴿لبيت العنكبوت﴾ لا يدفع عنها حرّاً ولا بردا كذلك الأصنام لا تنفع عابديها ﴿لو كانوا يعلمون﴾ أي : لو كانوا يعلمون أنّ هذا مثلهم وأن أمر دينهم بالغ هذه الغاية من الوهن، وأيضاً أنه إذا صح تشبيه ما اعتمدوه في دينهم ببيت العنكبوت فقد تبين أنّ دينهم أوهن الأديان لو كانوا يعلمون أي : لو كان لهم نوع مّا من العلم لانتفعوا به ولعلموا أنّ هذا مثلهم فأبعدوا عن اعتقاد ما هذا مثلهم، ولقائل أن يقول مثل المشرك الذي يعبد الوثن بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد الله مثل عنكبوت تتخذ بيتاً بالإضافة إلى رجل يبني بيتاً بآجر وجص أو ينحته من صخر وكان أوهن البيوت إذا استقريتها بيتاً بيتاً بيت العنكبوت كذلك الأديان إذا استقريتها ديناً ديناً عبادة الأوثان، فإن قيل : لم مثل تعالى باتخاذ العنكبوت ولم يمثل بنسجها ؟
أجيب : بأنّ نسجها فيه فائدة لولاه لما حصلت وهو اصطياد الذباب به من غير أن يفوتها ما هو أعظم منه واتخاذهم الأوثان يفيدهم ما هو أقل من الذباب من متاع الدنيا ولكن يفوتهم ما هو أعظم منها وهو الدار الآخرة التي هي خير وأبقى فليس اتخاذهم كنسج العنكبوت، تنبيه : نون العنكبوت أصلية والواو والتاء مزيدتان بدليل جمعة على عناكب وتصغيره عنيكب ويذكر ويؤنث فمن التأنيث قوله تعالى ﴿اتخذت﴾ ومن التذكير قول القائل :
*على هطالهم منهم بيوت ** كأن العنكبوت هو ابتناها*
وهذا مطرد في أسماء الأجناس تذكر وتؤنث، وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص البيوت بضم الباء، والباقون بكسرها، ولما كان ضرب المثل بالشيء لا يصح إلا من العالم بذلك الشيء قال الله تعالى :
﴿إن الله﴾ أي : الذي له صفات الكمال ﴿يعلم ما﴾ أي : الذي ﴿يدعون﴾ أي : يعبدون ﴿من دونه﴾ أي : غيره ﴿من شيء﴾ أي : سواء كان صنماً أم إنسياً أم جنياً ﴿وهو العزيز﴾ في ملكه ﴿الحكيم﴾ في صنعه، وقرأ أبو عمرو وعاصم يدعون بالياء التحتية، والباقون بالفوقية، ولما ذكر مثلهم وما تتوقف صحته عليه كان كأنه قيل : على وجه التعظيم : هذا المثل مثلهم فعطف عليه قوله تعالى إشارة إلى أمثال القرآن كلها تعظيماً لها وتنبيهاً على جليل قدرها وعلوّ شأنها.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٩٤


الصفحة التالية
Icon