وتلك الأمثال} أي : العالية عن أن تنال بنوع احتيال، ثم استأنف قوله تعالى ﴿نضربها﴾ أي : بمالنا من العظمة بياناً ﴿للناس﴾ أي : تصويراً للمعاني المعقولات بصور المحسوسات لعلها تقرب من عقولهم فينتفعوا بها، وهكذا حال التشبيهات كلها هي طرق إلى إفهام المعاني المحتجبة في الأستار تبرزها وتكشف عنها وتصوّرها، روي أنّ الكفار قالوا كيف يضرب خالق الأرض والسموات الأمثال بالهوام والحشرات كالذباب والبعوض والعنكبوت ؟
فقال الله تعالى مجهلاً لهم :﴿وما يعقلها﴾ أي : حق تعقلها فينتفع بها ﴿إلا العالمون﴾ أي : الذين هيؤا للعلم وجعل طبعاً
١٩٥
لهم بما بث في قلوبهم من أنواره وأشرق في صدورهم من أسراره، فهم يضعون الأشياء مواضعها، روى الحارث بن أبي أسامة عن جابر أنّ النبي ﷺ قال :"العالم : الذي عقل عن الله وعمل بطاعته واجتنب سخطه" قال البغويّ : والمثل كلام سائر يتضمن تشبيه الآخر بالأوّل يريد أمثال القرآن التي يشبه بها أحوال كفار هذه الأمّة بأحوال كفار الأمم المتقدّمة، ولما قدّم تعالى أنه لا معجز له سبحانه ولا ناصر لمن خذله استدل على ذلك بقوله تعالى :
﴿خلق الله﴾ أي : الذي لا يدانى في عظمته ﴿السموات والأرض بالحق﴾ أي : الأمر الذي يطابقه الواقع، أو بسبب إثبات الحق وإبطال الباطل، أو بسبب أنه محق غير قاصد به باطلاً فإنّ المقصود بالذات من خلقهما إفاضة الجود والدلالة على ذاته وصفاته كما أشار إليه بقوله تعالى :﴿إنّ في ذلك لآية﴾ أي : دلالة ظاهرة على قدرته تعالى ﴿للمؤمنين﴾ وأُختص المؤمنون بذلك لأنهم المنتفعون به، ثم خاطب تعالى رأس أهل الإيمان بقوله تعالى :
﴿اتل ما أوحي إليك من الكتاب﴾ أي : القرآن الجامع لكل خير لتعلم أن نوحاً ولوطاً وغيرهما كانوا على ما أنت عليه بلغوا الرسالة وبالغوا في إقامة الدلالة، ولم ينقذوا قومهم من الضلالة، وهذا تسلية للنبي ﷺ ولما أرشد تعالى إلى مفتاح العلم دلّ على قانون العمل بقوله تعالى :﴿وأقم الصلاة﴾ أي : التي هي أحق العبادات، ثم علل ذلك بقوله تعالى :﴿إنّ الصلاة تنهى﴾ أي : توجد النهي وتجدّده للمواظب على إقامتها بجميع حدودها ﴿عن الفحشاء﴾ أي : عن الخصال التي بلغ قبحها ﴿والمنكر﴾ وهو ما لا يعرف في الشرع، فإن قيل : كم من مصلّ يرتكب الفحشاء ؟
أجيب : بأنّ المراد الصلاة التي هي الصلاة عند الله تعالى المستحق بها الثواب بأن يدخل فيها مقدّماً للتوبة النصوح متقياً لقوله تعالى :﴿إنما يتقبل الله من المتقين﴾ (المائدة، ٣٧)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٩٤
ويصليها خاشعاً بالقلب والجوارح، فقد روي عن حاتم كأنّ رجليّ على الصراط والجنة عن يميني والنار عن شمالي وملك الموت من فوقي وأصلي بين الخوف والرجاء، ثم يحوطها بعد أن يصليها ولا يحبطها فهي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وقال ابن مسعود وابن عباس : إن الصلاة تنهى وتزجر عن معاصي الله عز وجل فمن لم تأمره صلاته بالمعروف ولم تنهه عن المنكر لم يزدد بصلاته من الله تعالى إلا بعداً، وقال الحسن وقتادة : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فصلاته وبال عليه، وقيل من كان مراعياً للصلاة جره ذلك إلى أن ينتهي عن السيئات يوماً ما، فقد روي أنه قيل لرسول الله ﷺ أن فلاناً يصلي بالنهار ويسرق بالليل فقال :"إن صلاته لتردعه".
وروي أن فتى من الأنصار كان يصلي معه الصلوات ولا يدع شيئاً من الفواحش إلا ركبه فوصف له فقال : إنّ صلاته ستنهاه فلم يلبث أن تاب، وقال ابن عوف : معنى الآية إن الصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر ما دام فيها، وعلى كل حال فإنّ المراعي للصلاة لا بدّ أن يكون أبعد من الفحشاء والمنكر ممن لا يراعيها، وأيضاً فكم من مصلين تنهاهم الصلاة عن الفحشاء والمنكر،
١٩٦
واللفظ لا يقتضي أن لا يخرج واحد من المصلين عن قضيتها كما تقول : إن زيداً ينهى عن المنكر فليس غرضك أنه ينهى عن جميع المناكر وإنما تريد أن هذه الخصلة موجودة فيه وحاصلة منه من غير اقتضاء للعموم، وقيل : المراد بالصلاة القرآن كما قال تعالى :﴿ولا تجهر بصلاتك﴾ (الإسراء : ١١٠)
أي : بقراءتك وأراد به من يقرأ القرآن في الصلاة فالقرآن ينهاه عن الفحشاء والمنكر، روي أنه قيل لرسول الله ﷺ إن رجلاً يقرأ القرآن الليل كله ويصبح سارقاً قال ستنهاه قراءته، ولما كان الناهي في الحقيقة إنما هو ذكر الله أتبع ذلك بقوله تعالى :