فإن قيل : ما الفائدة في قوله تعالى ههنا ﴿وإن كثيراً من الناس﴾ وقال من قبل ﴿ولكن أكثر الناس﴾ ؟
أجيب : بأن فائدته أنه من قبل لم يذكر دليلاً على الأصلين وههنا قد ذكر الدلائل الراسخة والبراهين اللائحة، ولا شك في أن الإيمان بعد الدليل أكثر من الإيمان قبل الدليل. فبعد الدليل لا بد أن يؤمن من ذلك جمع فلا يبقى الأكثر كما هو، فقال بعد إقامة الدليل : و﴿إن كثيراً﴾ وقال قبله :﴿ولكن أكثر الناس﴾ لأنه بعد الدليل لا يمكن الذهول عنه وهو السموات والأرض لأن من البعيد أن يذهل الإنسان عن السماء التي فوقه والأرض التي تحته، فلهذا ذكر ما يقع الذهول عنه وهو أمثالهم وحكاية أشكالهم فقال :
﴿أو لم يسيروا في الأرض﴾ أي : سير اعتبار، وقوله تعالى ﴿فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم﴾ من الأمم وهي إهلاكهم بتكذيبهم رسلهم تقريراً لسيرهم في أقطار الأرض، ونظرهم إلى آثار المدمرين كعاد وثمود ﴿كانوا أشدّ منهم﴾ أي : العرب ﴿قوّة﴾ أي : في أبدانهم وعقولهم ﴿وأثاروا الأرض﴾ أي : حرثوها وقلبوها للزرع والغرس والمعادن والمياه وغير ذلك ﴿وعمروها﴾ أي : أولئك السالفون ﴿أكثر مما عمروها﴾ أي : هؤلاء الذين أرسلت إليهم بل ليس لهم من إثارة الأرض وعمارتها كبير أمر، فإن بلاد العرب إنما هي في جبال سود، وفياف غبر، فما هو إلا تهكم بهم وبيان لضعف حالهم في دنياهم التي لا فخر لهم بغيرها ﴿وجاءتهم رسلهم بالبينات﴾ أي :
٢١٣
بالحجج الظاهرات مثل ما أتاكم به رسولنا من وعودنا الصادقة وأمورنا الخارقة كأمر الإسراء وما أظهر فيه من الغرائب كالإخبار :"بأن العير تقدِم في يوم كذا يقدُمها جمل صفته كذا وغرائره كذا فظهر كذلك" وما آمنتم به كما لم يؤمن من كان أشدّ منكم قوّة ﴿فما﴾ أي : تسبب أنه ما ﴿كان الله﴾ أي : على مالهم من أوصاف الكمال مريداً ﴿ليظلمهم﴾ بأن يفعل معهم فعل من تعدونه أنتم ظالماً بأن يهلكهم في الدنيا ثم يقتص منهم في القيامة قبل إقامة الحجة عليهم بإرسال الرسل بالبينات ﴿ولكن كانوا﴾ بغاية جهدهم ﴿أنفسهم﴾ أي : خاصة ﴿يظلمون﴾ أي : يجدّدون الظلم لها بإيقاع الضر موقع مجلب النفع.
﴿ثم كان عاقبة﴾ أي : آخر أمر ﴿الذين أساؤا﴾ وقوله تعالى ﴿السوأى﴾ تأنيث الأسوأ وهو الأقبح كما أن الحسنى تأنيث الأحسن، والمعنى : أنهم عوقبوا في الدنيا بالدمار ثم إن عاقبتهم السوأى، إلا أنه وضع المظهر موضع المضمر، أي : العقوبة التي هي أسوأ العقوبات في الآخرة وهي جهنم التي أعدت للكافرين. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو عاقبة بالرفع على أنها اسم كان والسوأى خبرها، والباقون بالنصب على أنها خبر كان. وقيل : السوأى اسم لجهنم كما أن الحسنى اسم للجنة، وإساءتهم ﴿أن﴾ أي : بأن ﴿كذبوا بآيات الله﴾ أي : القرآن. وقيل : تفسير السوأى ما بعده وهو قوله تعالى ﴿أن كذبوا﴾ أي : ثم كان عاقبة المسيئين التكذيب، حملتهم تلك السيئات على أن كذبوا بآيات الله ﴿وكانوا بها﴾ مع كونها أبعد شيء عن الهزء ﴿يستهزئون﴾ أي : يستمرون على ذلك بتحديده في كل حين. ولما كان حاصل ما مضى أنه تعالى قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء صرح بذلك في قوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢١٢
الله﴾ أي : المحيط علماً وقدرة ﴿يبدأ الخلق﴾ أي : بدأ منه ما رأيتم وهو يجدد في كل وقت ما يريد من ذلك كما تشاهدون ﴿ثم يعيده﴾ أي : خلقهم بعد موتهم أحياء، ولم يقل يعيدهم لرده إلى الخلق ﴿ثم إليه ترجعون﴾ للجزاء فيجزيهم بأعمالهم، وقرأ أبو عمرو وشعبة بالياء على الغيبة على النسق الماضي والباقون بالتاء على الخطاب أي : إليه ترجعون معنى في أموركم كلها في الدنيا وإن كنتم لقصور النظر تنسبونها للأسباب، وحساً بعد قيام الساعة، وهي أبلغ من القراءة الأولى ؛ لأنها أنص على المقصود، ولما ذكر الرجوع أتبعه ببعض أحواله بقوله تعالى :
﴿يوم تقوم الساعة﴾ سميت بذلك إشارة إلى عظيم القدرة عليها مع كثرة الخلائق على ما هم فيه من العظماء والكبراء والرؤساء ﴿يبلس المجرمون﴾ أي : يسكت المشركون لانقطاع حجتهم، فالإبلاس أن يبقى يائساً ساكتاً متحيراً. يقال : ناظرته فأبلس. ومنه الناقة المبلاس أي : التي لا ترغو، وقال مجاهد : مفتضحون، وقال قتادة : المعنى : ييأس المشركون من كل خير، ولما كان الساكت ربما أغناه عن الكلام غيره نفي ذلك بقوله تعالى محققاً له بجعله ماضياً.
﴿ولم يكن﴾ ومعناه لا يكون ﴿لهم من شركائهم﴾ أي : ممن أشركوهم بالله وهم الأصنام ﴿شفعواء﴾ ينقذونهم مما هم فيه ليتبين لهم غلطهم وجهلهم المفرط في قولهم : هؤلاء شفعاؤنا عند الله، ولما ذكر تعالى حال الشفعاء معهم ذكر حالهم مع الشفعاء بقوله تعالى :﴿وكانوا بشركائهم﴾ أي : خاصة ﴿كافرين﴾ أي : متبرئين منهم بأنهم ليسوا بآلهة، وقيل : كانوا في الدنيا كافرين بسببهم،
٢١٤
وكتب شفعاء في المصحف بواو قبل الألف كما كتب علماء بني إسرائيل، وكذلك كتب السوأى بألف قبل الياء إثباتاً للهمزة على صورة الحرف الذي منه حركتها.