من كفر} أي : منهم ﴿فعليه كفره﴾ أي : وبال كفره ﴿ومن عمل صالحاً﴾ أي : بالإيمان وما يترتب عليه ﴿فلأنفسهم يمهدون﴾ أي : يوطئون منازلهم في القبور وفي الجنة بل وفي الدنيا فإن الله تعالى يعزهم بعز طاعته.
تنبيه : أظهر قوله تعالى صالحاً ولم يضمر لئلا يتوهم عود الضمير على من كفر وبشارة بأنّ أهل الجنة كثير وإن كانوا قليلاً ؛ لأنّ الله تعالى هو مولاهم فهو مزكيهم. وأفرد الشرط وجمع الجزاء في قوله تعالى ﴿فلأنفسهم يمهدون﴾ (الروم : ٤٤)
إشارة إلى أنّ الرحمة أعم من الغضب فتشمله وأهله وذريته، وفيه ترغيب في العمل من غير نظر إلى مساعد، وبأنه ينفع نفسه وغيره لأنّ المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وأقل ما ينفع والديه وشيخه في ذلك العمل. وقوله تعالى :
﴿ليجزي﴾ أي : الله سبحانه وتعالى الذي أنزل هذه السورة لبيان أنه ينصر أولياءه لإحسانه لأنه مع المحسنين، ولذلك اقتصر هنا على ذكرهم بقوله تعالى :﴿الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ أي : تصديقاً لإيمانهم ﴿من فضله﴾ علة ليمهدون أو ليصدعون، والاقتصار على جزاء الموصوفين للإشعار بأنه المقصود بالذات والاكتفاء عن فحوى قوله تعالى ﴿إنه لا يحب الكافرين﴾ فإن فيه إثبات البغض لهم فيعذبهم، والمحبة للمؤمنين فيثيبهم، وتأكيدُ اختصاص
٢٢٩
الصلاح المفهوم من ترك ضميرهم إلى التصريح بهم تعليل لهم، وقوله تعالى ﴿من فضله﴾ دال على أنّ الإثابة بمحض الفضل. ولما ذكر تعالى ظهور الفساد والهلاك بسبب الشرك ذكر ظهور الصلاح ولم يذكر أنه بسبب العمل الصالح لأن الكريم لا يذكر لإحسانه عوضاً ويذكر لأضداده سبباً لئلا يتوهم به الظلم قال تعالى :
﴿ومن آياته﴾ أي : دلالاته الواضحة ﴿أن يرسل الرياح مبشرات﴾ أي : بالمطر كما قال تعالى ﴿بشراً بين يدي رحمته﴾ أي : قبل المطر، وقيل : مبشرات بصلاح الأهوية والأحوال فإن الرياح لو لم تهب لظهر الوباء والفساد، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي الريح بالإفراد على إرادة الجنس، والباقون بالجمع وهي الجنوب والشمال والصبا ؛ لأنها رياح الرحمة، وأمّا الدبور فريح العذاب ومنه قوله ﷺ "اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً" وقوله تعالى ﴿وليذيقكم﴾ أي : بها ﴿من رحمته﴾ أي : من نعمته من المياه العذبة والأشجار الرطبة وصحة الأبدان وما يتبع ذلك من أمور لا يحصيها إلا خالقها، معطوف على مبشرات على المعنى كأنه قيل : ليبشركم وليذيقكم، أو على علة محذوفة دل عليها مبشرات، أو على يرسل بإضمار فعل معلل دل عليه أي : وليذيقكم أرسلها ﴿ولتجري الفلك﴾ أي : السفن في جميع البحار وما جرى مجراها عند هبوبها، وإنما زاد ﴿بأمره﴾ لأن الريح قد تهب ولا تكون موافقة فلا بدّ من إرساء السفن والاحتيال لحبسها، وربما عصفت وأغرقتها ﴿ولتبتغوا﴾ أي : تطلبوا ﴿من فضله﴾ من رزقه بالتجارة في البحر ﴿ولعلكم﴾ أي : ولتكونوا إذا فعل بكم ذلك على رجاء من أنكم ﴿تشكرون﴾ على ما أنعم عليكم من نعمه ودفع عنكم من نقمه.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٢٩
تنبيه : قال تعالى في ظهر الفساد ﴿ليذيقهم بعض الذي عملوا﴾ (الروم : ٤١)
وقال ههنا ﴿وليذيقكم من رحمته﴾ فخاطبهم ههنا تشريفاً ولأنّ رحمته قريب من المحسنين وحينئذ فالمحسن قريب فيخاطب، والمسيء بعيد فلم يخاطب، وقال هناك ﴿بعض الذي عملوا﴾ فأضاف ما أصابهم إلى أنفسهم وأضاف ما أصاب المؤمن إلى رحمته فقال تعالى :﴿من رحمته﴾ لأنّ الكريم لا يذكر لرحمته وإحسانه عوضاً فلا يقول : أعطيتك لأنك فعلت كذا بل يقول : هذا لك مني، وأما ما فعلت من الحسنة فجزاؤه بعد عندي. وأيضاً فلو قال : أرسلت لسبب فعلكم لا يكون بشارة عظيمة، وأما إذا قال : من رحمته كان غاية البشارة، وأيضاً فلو قال : بما فعلتم لكان ذلك موهماً لنقصان ثوابهم في الآخرة، وأما في حق الكفار فإذا قال : بما فعلتم أنبأ عن نقصان عقابهم وهو كذلك وقال هناك ﴿لعلهم يرجعون﴾ وقال هنا :﴿ولعلكم تشكرون﴾ فالواو إشارة إلى توفيقهم للشكر في النعم، وعطف على النعم قوله تعالى :
﴿ولقد أرسلنا﴾ أي : بما لنا من القوة. وقال تعالى ﴿من قبلك رسلاً﴾ تنبيهاً على أنه خاتم النبيين بتخصيص إرسال غيره بما قبل زمانه وقال ﴿إلى قومهم﴾ إعلاماً بأنّ أمر الله إذا جاء لا ينفع فيه قريب ولا بعيد ﴿فجاؤهم بالبينات﴾ فانقسم قومهم إلى مسلمين ومجرمين ﴿فانتقمنا﴾ أي : فكانت معاداة المسلمين للمجرمين فينا سبباً ؛ لأنا انتقمنا بما لنا من العظمة ﴿من الذين أجرموا﴾ أي : أهلكنا الذين كذبوهم لإجرامهم وهو قطع ما أمرناهم بوصله.
٢٣٠