﴿ووصينا الإنسان بوالديه﴾ أي : أمرناه أن يبرهما ويطيعهما ويقوم بهما، ثم بين تعالى السبب في ذلك بقوله تعالى :﴿حملته أمه وهناً﴾ أي : حال كونها ذات وهن بحمله وبالغ في جعلها نفس الفعل دلالة على شدّة ذلك الضعف ﴿على وهن﴾ أي : ضعف الحمل، وضعف الطلق، وضعف الولادة، ثم أشار إلى ما لها عليه من المنة بعد ذلك بالشفقة وحسن الكفالة وهو لا يملك لنفسه شيئاً بقوله تعالى :﴿وفصاله﴾ أي : فطامه من الرضاعة بعد وضعه ﴿في عامين﴾ تقاسي فيهما في منامه وقيامه ما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى، فإن قيل وصى الله تعالى بالوالدين وذكر السبب في حق الأم مع أن الأب وجد منه أكثر من الأم لأنه حمله في صلبه سنين ورباه بكسبه سنين فهو أبلغ ؟
أجيب : بأن المشقة الحاصلة للأم أعظم فإن الأب حمله خفيفاً لكونه من جملة جسده والأم حملته ثقيلاً آدمياً مودعاً فيها وبعد وضعه وتربيته ليلاً ونهاراً وبينهما ما لا يخفى من المشقة، ومن ثم قال ﷺ لمن قال له : من أبر ؟
:"أمك ثم أمك ثم أمك ثم قال بعد ذلك ثم أباك" وقوله تعالى ﴿أن اشكر لي﴾ لأني المنعم في الحقيقة ﴿ولوالديك﴾ أي : لكوني جعلتهما سبباً لوجودك والإحسان بتربيتك تفسير لوصينا أو عدة له، ثم علل الأمر بالشكر محذراً بقوله تعالى :﴿إليّ﴾ لا إلى غيري ﴿المصير﴾ فأحاسبك على شركك ومعاصيك، وعن القيام بحقوقهما، قال سفيان بن عيينة في هذه الآية : من صلى الصلوات الخمس فقد شكر لله، ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات الخمس فقد شكر للوالدين، ولما ذكر تعالى وصيته بهما وأكد حقهما أتبعه الدليل على ما ذكر لقمان من قباحة الشرك بقوله تعالى :
﴿وإن جاهداك﴾ أي : مع ما أمرتك به من طاعتهما ﴿على أن تشرك بي﴾ وقوله تعالى ﴿وما ليس لك به علم﴾ موافق للواقع لأنه لا يمكن أن يدل علم من أنواع العلوم على شيء من الشرك بل العلوم كلها دالة على الوحدانية.
٢٤٤
ولما قرر ذلك على هذا المنوال البديع قال مسبباً عنه ﴿فلا تطعهما﴾ أي : في ذلك ولو اجتمعا على المجاهدة لك عليه بل خالفهما، وإن أدى الأمر إلى السيف فجاهدهما به لأن أمرهما بذلك مناف للحكمة حامل على محض الجور والسفه ففيه تنبيه لقريش على محض الغلط في التقليد لآبائهم في ذلك، وربما أفهم ذلك الإعراض عنهما بالكلية فلهذا قال تعالى ﴿وصاحبهما في الدنيا﴾ أي : في أمورها التي لا تتعلق بالدين ما دمت حياً بها ﴿معروفاً﴾ ببرهما إن كانا على دين يقران عليه ومعاملتهما بالحلم والإحتمال وما تقتضيه مكارم الأخلاق ومعالي الشيم، ولما كان ذلك قد يجرّ إلى نوع وهن في الدين ببعض محاباة نفي ذلك بقوله تعالى :﴿واتبع﴾ أي : بالغ في أن تتبع ﴿سبيل﴾ أي : دين وطريق ﴿من أناب﴾ أي : أقبل خاضعاً ﴿إليّ﴾ لم يلتفت إلى عبادة غيري وهم المخلصون، فإن ذلك لا يخرجك عن برهما ولا عن توحيد الله تعالى ولا عن الإخلاص له.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٤١
تنبيه : في هذا حث على معرفة الرجال بالحق وأمر بحك المشايخ وغيرهم على محك الكتاب والسنة، فمن كان عمله موافقاً لهما اتبع، ومن كان عمله مخالفاً لهما اجتنب. وإذا كان مرجع أمورهم كلها إليه في الدنيا ففي الآخرة كذلك كما قال تعالى ﴿ثم إليّ﴾ أي : في الآخرة ﴿مرجعكم فأنبئكم﴾ أي : أفعل فعل من يبالغ في التعقيب والاختبار عقب ذلك وتبيينه لأنّ ذلك أنسب شيء للحكمة وتعقب كل شيء بحسب ما يليق به ﴿بما كنتم تعملون﴾ أي : تجيددون عمله من صغير وكبير، وجليل وحقير، فأجازي من أريد وأغفر لمن أريد، فأعد لذلك عدته، ولا تعمل عمل من ليس له مرجع يحاسب فيه ويجازي على مثاقيل الذر من أعماله، والآيتان معترضتان في تضاعيف وصية لقمان تأكيداً لما فيها من النهي عن الشرك كأنه قال تعالى : وصينا بمثل ما وصى به وذكر الوالدين للمبالغة في ذلك فإنهما مع أنهما تلو الباري في استحقاق التعظيم والطاعة لا يجوز أن يتبعا في الإشراك فما ظنكم بغيرهما ونزولهما في سعد بن أبي وقاص وأمه مكثت لإسلامه ثلاثاً لم تطعم فيها شيئاً، ولذلك قيل من أناب إليّ هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه فإن سعداً أسلم بدعوة أبي بكر له، ثم إن ابن لقمان قال لأبيه : يا أبتِ إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله تعالى فقال.
﴿يا بني﴾ مجيباً له مستعطفاً مصغراً له بالنسبة إلى حلم شيء من غضب الله تعالى ﴿إنها﴾ أي : الخطيئة ﴿إن تك﴾ وأسقط النون لغرض الإيجاز في الإيصاء ﴿مثقال﴾ أي : وزن، ثم حقرها بقوله ﴿حبة﴾ وزاد في ذلك بقوله ﴿من خردل﴾ أي : إن تكن في الصغر كحبة الخردل، وقرأ نافع مثقال بالرفع على أنّ الهاء ضمير الخطيئة كما مر أو القصة وكان تامة، وتأنيثها الإضافة المثقال إلى الحبة كقول الأعشى :
*وتشرق بالقول الذي قد ذكرته ** كما شرقت صدر القناة من الدم*
٢٤٥


الصفحة التالية
Icon