والشرق الغصة، يقال شرق بريقه أي : غص، والشاهد في شرقت حيث أنه لإضافة الصدر إلى القناة، وصدرها ما فوق نصفها، ثم أثبت النون في قوله مبيناً عن صغرها ﴿فتكن﴾ إشارة إلى ثباتها في مكانها وليزداد شوق النفس إلى محط الفائدة ويذهب الوهم كل مذهب معبراً عن أعظم الخفاء وأتم الأحوال ﴿في صخرة﴾ أيّ صخرة كانت ولو أنها أشد الصخور وأخفاها، ولما أخفى وضيق أظهر ووسع ورفع وخفض ليكون أعظم لضياعها لحقارتها بقوله ﴿أو في السموات﴾ أي : في أيّ مكان منها على سعة أرجائها وتباعد أنحائها، وأعاد أونصاً على إرادة كل منهما على حدته بقوله ﴿أو في الأرض﴾ أي : كذلك وهذا كما ترى لا ينفي أن تكون الصخرة فيهما أو في غيرهما أو في أحدهما.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٤١
وأخرج ابن أبي حاتم عن عليّ بن رياح أنه لما وعظ لقمان ابنه وقال إنها إن تك الآية أخذ حبة من خردل فأتى بها إلى اليرموك فألقاها في عرضه، ثم مكث ما شاء الله تعالى، ثم ذكرها وبسط يده فأقبل بها ذباب حتى وضعها في راحته، وقال بعض المفسرين : المراد بالصخرة : صخرة عليها الثور وهي لا في الأرض ولا في السماء، وقال الزمخشري : فيه إضمار تقديره إن تكن في صخرة أو في موضع آخر في السموات أو في الأرض، وقيل : هذا من تقديم الخاص وتأخير العامّ وهو جائز في مثل هذا التقسيم، وقيل : خفاء الشيء يكون بطرق : منها : أن يكون في غاية الصغر، ومنها : أن يكون بعيداً، ومنها أن يكون في ظلمة، ومنها : أن يكون وراء حجاب فإذا امتنعت هذه الأمور فلا يخفى في العادة فأثبت لله الرؤية والعلم مع انتفاء الشرائط بقوله إن تك مثقال حبة من خردل إشارة إلى الصغر، وقوله فتكن في صخرة إشارة إلى الحجاب وقوله أو في السموات إشارة إلى البعد فإنها أبعد الأبعاد، وقوله أو في الأرض إشارة إلى الظلمات فإن جوف الأرض أظلم الأماكن وقوله ﴿يأت بها الله﴾ أبلغ من قول القائل يعلمها الله لأنّ من يظهر له شيء ولا يقدر على إظهاره لغيره يكون حاله في العلم دون حال من يظهر له الشيء ويظهره لغيره، فقوله يأت بها الله أي : يظهرها للإشهاد يوم القيامة فيحاسب بها عاملها.
﴿إنّ الله﴾ أي : الملك العظيم ﴿لطيف﴾ أي : نافذ القدرة يتوصل علمه إلى كل خفي عالم بكنهه، وعن قتادة لطيف باستخراجها ﴿خبير﴾ أي : عالم ببواطن الأمور فيعلم مستقرها، روي في بعض الكتب أنّ هذه آخر كلمة تكلم بها لقمان فانشقت مرارته من هيبتها فمات.
قال الحسن : معنى الآية هو الإحاطة بالأشياء صغيرها وكبيرها، ولما نبه على إحاطة علمه سبحانه وإقامته للحساب أمره بما يدخره لذلك توسلاً إليه وتخشعاً لديه وهو رأس ما يصلح به العمل ويصحح التوحيد ويصدقه بقوله :
﴿يا بني﴾ مكرر للمناداة تنبيهاً على فرط النصيحة لفرط الشفقة ﴿أقم الصلاة﴾ أي : بجميع حدودها وشروطها ولا تغفل عنها تسبباً في نجاة نفسك وتصفية سرك فإن إقامتها وهو الإتيان بها على النحو المرضي مانعة من الخلل في العمل، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر لأنها الإقبال على من وحدته، فاعتقدت أنه الفاعل وحده وأعرضت عن كل ما سواه لأنه في التحقيق عدم ولهذا الإقبال والإعراض كانت ثابتة للتوحيد وبهذا يعلم أن الصلاة كانت في سائر الملل غير أن هيآتها اختلفت وترك ذكر الزكاة تنبيهاً على أنه من حكمته، والحكمة تخليه وتخلى ولده من الدنيا حتى ما يكفيهم لقوتهم ولما، أمره بتكميله في نفسه توفية لحق الحق عطف على ذلك تكميله لغيره بقوله ﴿وأمر
٢٤٦
بالمعروف﴾ أي : كل من تقدر على أمره تهذيباً لغيرك وشفقة على نفسك لتخليص أبناء جنسك ﴿وإنه﴾ أي : كل من قدرت على نهيه ﴿عن المنكر﴾ حباً لأخيك ما تحب لنفسك تحقيقاً لنصيحتك وتكميلاً لعبادتك، ومن هذا الطراز قول أبي الأسود رحمه الله تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٤١
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ** فإن انتهت عنه فأنت حكيم*
لأنه أمره أولاً بالمعروف وهو الصلاة الناهية عن الفحشاء والمنكر، فإذا أمر نفسه ونهاها ناسب أن يأمر غيره وينهاه، وهذا وإن كان من قول لقمان إلا أنه لما كان في سياق المدح له كنا مخاطبين به، فإن قيل كيف قدم في وصيته لابنه الأمر بالمعروف على النهي عن المنكر وحين أمر أنه قدم النهي عن المنكر على الأمر بالمعروف فقال : لا تشرك بالله ثم قال أقم الصلاة ؟
أجيب : بأنه كان يعلم أنّ ابنه معترف بوجود الإله فما أمره بهذا المعروف بل نهاه عن المنكر الذي ترتب على هذا المعروف، وأمّا ابنه فأمره أمراً مطلقاً والمعروف يقدم على المنكر، ولما كان القابض على دينه في غالب الأزمان كالقابض على الجمر قال له ﴿واصبر﴾ صبراً عظيماً بحيث تكون مستعلياً ﴿على ما﴾ أي : الذي ﴿أصابك﴾ أي : في عبادتك وغيرها من الأمر بالمعروف وغيره سواء أكان بواسطة العباد أم لا كالمرض، وقد بدأ هذه الوصية بالصلاة وختمها بالصبر لأنهما ملاك الاستعانة قال تعالى ﴿واستعينوا بالصبر والصلاة﴾ (البقرة : ٤٥)