فإن قيل : كيف تصح منه الصلاة في قبره وهو ميت وقد سقط عنه التكليف وهو في الدار الآخرة وهي ليست دار عمل، وكذلك رأى النبي ﷺ جماعة من الأنبياء وهم يحجون ؟
أجيب عن ذلك بأجوبة : الأول : أن الأنبياء أفضل من الشهداء، والشهداء أحياء عند ربهم فلا يبعد أن يحجوا ويصلوا كما صح في الحديث، وأن يتقربوا إلى الله تعالى بما استطاعوا لأنهم وإن كانوا قد توفوا لكنهم بمنزلة الأحياء في هذه الدار التي هي دار العمل إلى أن تفنى ويفضوا إلى دار الجزاء التي هي الجنة.
الجواب الثاني : أنه ﷺ رأى حالهم التي كانوا عليها في حياتهم ومثلوا له كيف كانوا وكيف كان حجهم وصلاتهم. الجواب الثالث : أن التكليف وإن ارتفع عنهم في الآخرة لكن الذكر والشكر والدعاء لا يرتفع قال الله تعالى ﴿دعواهم فيها سبحانك اللهم﴾ (يونس : ١٠)
وقال ﷺ "يلهمون التسبيح كما تلهمون النفس" فالعبد يعبد ربه تعالى في الجنة أكثر ما كان يعبده في دار الدنيا، وكيف لا يكون ذلك وقد صار مثل حال الملائكة الذين قال الله تعالى في حقهم ﴿يسبحون الليل والنهار لا يفترون﴾ (الأنبياء : ٢٠)
غاية ما في الباب أن العبادة ليست عليهم بتكليف بل هي مقتضى الطبع. ثانيها : أن الضمير يعود إلى الكتاب وحينئذ يجوز أن تكون الإضافة للفاعل أي : من لقاء الكتاب لموسى أو المعول أي : من لقاء موسى الكتاب لأن اللقاء تصح نسبته إلى كل منهما ؛ لأن من لقيك فقد لقيته. قال السدي : المعنى فلا تكن في مرية من لقائه أي : تلقى موسى كتاب الله تعالى بالرضا والقبول.
٢٧٥
ثالثها : أنه يعود على الكتاب على حذف مضاف أي : من لقاء مثل كتاب موسى.
رابعها : أنه عائد على ملك الموت عليه السلام لتقدم ذكره. خامسها : عوده على الرجوع المفهوم من قوله ﴿إلى ربكم ترجعون﴾ أي : لا تكن في مرية من لقاء الرجوع. سادسها : أنه يعود على ما يفهم من سياق الكلام مما ابتلي به موسى من الابتلاء والامتحان قاله الحسن أي : لا بد أن تلقى ما لقي موسى من قومه، واختار موسى عليه السلام الحكمة وهي أن أحداً من الأنبياء لم يؤذه من قومه إلا الذين لم يؤمنوا، وأما الذين آمنوا به فلم يخالفوه غير قوم موسى عليه السلام فإن من لم يؤمن به آذاه كفرعون، ومن آمن به من بني إسرائيل آذاه أيضاً بالمخالفة، فطلبوا أشياء مثل رؤية الله جهرة، وكقولهم ﴿فاذهب أنت وربك فقاتلا﴾ (المائدة : ٢٤)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٧٣
وأظهر هذه الأقوال أن الضمير إما لموسى وإما للكتاب، واختلف في الضمير أيضاً في قوله تعالى ﴿وجعلناه﴾ على قولين : أحدهما : يرجع إلى موسى أي : وجعلنا موسى ﴿هدى﴾ أي : هادياً ﴿لبني إسرائيل﴾ كما جعلناك هادياً لأمتك. والثاني : أنه يرجع إلى الكتاب أي : وجعلنا كتاب موسى هادياً كما جعلنا كتابك كذلك.
﴿وجعلنا منهم﴾ أي : من أنبيائهم وأحبارهم ﴿أئمة يهدون﴾ أي : يرفعون البيان ويعملون على حسبه ﴿بأمرنا﴾ أي : بما نزلنا فيه من الأوامر، كذلك جعلنا من أمتك صحابة يهدون، كما قال النبي ﷺ "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة قبل الميم، ولهم أيضاً إبدالها ياء، وحققها الباقون ومد هشام بين الهمزتين بخلاف عنه، وقوله تعالى ﴿لما صبروا﴾ قرأ حمزة والكسائي بكسر اللام وتخفيف الميم أي : بسبب صبرهم على دينهم وعلى البلاء من عدوهم ولأجله، وقرأ الباقون بفتح اللام وتشديد الميم أي : حين صبرهم على ذلك، وإن كان الصبر أيضاً إنما هو بتوفيق الله تعالى ﴿وكانوا بآياتنا﴾ الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا لما لها من العظمة ﴿يوقنون﴾ أي : لا يرتابون في شيء منها ولا يعملون فعل الشاك فيها بالإعراض.
ولما أفهم قوله تعالى منهم أنه كان منهم من يضل عن أمر الله قال الله تعالى :
﴿إن ربك﴾ أي : المحسن إليك بإرسالك ليعظم ثوابك ﴿هو﴾ أي : وحده ﴿يفصل بينهم﴾ أي : بين الهادين والمهديين والضالين والمضلين ﴿يوم القيامة﴾ بالقضاء الحق ﴿فيما كانوا فيه يختلفون﴾ أي : من أمر الدين لا يخفي عليه شيء منه وأما غير ما اختلفوا فيه، فالحكم فيه لهم أو عليهم، وما اختلفوا فيه لا على وجه القصد فيقع في محل العفو.
ولما أعاد ذكر الرسالة أعاد ذكر التوحيد بقوله تعالى :
﴿أولم يهد﴾ أي : يبين كما رواه البخاري عن ابن عباس ﴿لهم كم أهلكنا﴾ أي : كثرة من أهلكنا ﴿من قبلهم من القرون﴾ الماضين من المعرضين عن الآيات، ونجينا من آمن بها. وقوله تعالى ﴿يمشون﴾ حال من ضمير لهم ﴿في مساكنهم﴾ أي : في أسفارهم إلى الشام وغيرها كمساكن عاد وثمود وقوم لوط فيعتبروا ﴿إن في ذلك﴾ أي : الأمر العظيم ﴿لآيات﴾ أي : دلالات على قدرتنا ﴿أفلا يسمعون﴾ سماع تدبر واتعاظ فيتعظوا بها.
٢٧٦


الصفحة التالية
Icon