﴿وإذ﴾ أي : واذكر حين ﴿أخذنا﴾ بعظمتنا ﴿من النبيين ميثاقهم﴾ أي : عهودهم في تبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين القيم في المنشط والمكره وفي تصديق بعضهم لبعض وفي اتباعك فيما أخبرنا به في قولنا :﴿لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه﴾ (آل عمران : ٨٨)
وقولهم أقررنا.
ولما ذكر ما أخذ على جميع الأنبياء من العهد في إبلاغ ما يوحى إليهم والعمل بمقتضاه ذكر ما أخذ عليهم من العهد في التبليغ بقوله تعالى :﴿ومنك﴾ أي : في قولنا في هذه السورة ﴿اتق الله واتبع ما يوحى إليك﴾ (الأحزاب : ١ ـ ٢)
وفي المائدة : ٦٧ ﴿يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس﴾ فلا تهتم بمراعاة عدو ولا خليل حقير ولا جليل.
ولما أتم المراد إجمالاً وعموماً وخصه ﷺ من ذلك العموم مبتدئاً به لقوله ﷺ "كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث" بياناً بتشريفه، ولأنه المقصود بالذات أتبعه بقية أولي العزم الذين هم أصحاب الكتب ومشاهير أرباب الشرائع ورتبهم على ترتيبهم في الزمان ؛ لأنه لم يقصد المفاضلة بينهم بالتأسية بالمتقدمين والمتأخرين قال ﴿ومن نوح﴾ أول الرسل إلى المخالفين ﴿وإبراهيم﴾ أبي الأنبياء ﴿وموسى﴾ أول أصحاب الكتب من بني إسرائيل ﴿وعيسى بن مريم﴾ ختام أنبياء بني إسرائيل، ونسبه إلى أمه مناداة على من ضل فيه بدعوى الألوهية وبالتوبيخ والتسجيل بالفضيحة.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٨٦
تنبيه : ذكر هذه الخمسة من عطف الخاص على العام كما علم مما تقرر، وقوله تعالى :﴿وأخذنا﴾ أي : بعظمتنا في ذلك ﴿منهم ميثاقاً غليظاً﴾ أي : شديداً بالوفاء بما حملوه وهو الميثاق الأول، وإنما كرر لزيادة وصفه بالغلظ وهو استعارة من وصف الأجرام، والمراد : عظم الميثاق وجلالة شأنه في بابه، وقيل : الميثاق الغليظ اليمين بالله على الوفاء بما حملوه ثم أخذ الميثاق.
﴿ليسأل﴾ أي : الله تعالى يوم القيامة ﴿الصادقين﴾ أي : الأنبياء الذين صدقوا عهدهم ﴿عن صدقهم﴾ أي : عما قالوه لقومهم تبكيتاً للكافرين بهم، وقيل : ليسأل المصدقين للأنبياء عن تصديقهم ؛ لأن من قال للصادق : صدقت كان صادقاً في قوله، وقيل : ليسأل الأنبياء ما الذي أجابتهم به أممهم، وقيل : ليسأل الصادقين بأفواههم عن صدقهم بقلوبهم وقوله تعالى :﴿وأعد للكافرين عذاباً أليماً﴾ أي : مؤلماً معطوف على أخذنا من النبيين ؛ لأن المعنى : أن الله تعالى أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين، وأعد للكافرين عذاباً أليماً، ويجوز أن يعطف على ما دل عليه ليسأل الصادقين، كأنه قال : أثاب المؤمنين وأعد للكافرين، وقيل : إنه قد حذف من الثاني ما أثبت مقابله في الأول، ومن الأول ما أثبت مقابله في الثاني والتقدير : ليسأل الصادقين عن صدقهم فأثابهم ويسأل الكافرين عما كذبوا به رسلهم وأعد لهم عذاباً أليماً.
ثم حقق الله تعالى ما سبق لهم من الأمر بتقوى الله تعالى بحيث لا يبقى معه الخوف من أحد
٢٨٦
بقوله تعالى :
﴿يا أيها الذين آمنوا اذكروا﴾ ورغبهم في الشكر بذكر الإحسان والتصريح بالاسم الأعظم بقوله تعالى :﴿نعمة الله﴾ أي : الملك الأعلى الذي لا كفء له ﴿عليكم﴾ أي : لتشكروه عليها بالنفوذ، لأمره وعبر بالنعمة ؛ لأنها المقصودة بالذات، والمراد إنعامه يوم الأحزاب وهو يوم الخندق، ثم ذكر وقت تلك النعمة زيادة في تصويرها ليذكر لهم ما كان فيه منها بقوله تعالى :﴿إذ﴾ أي : حين ﴿جاءتكم جنود﴾ أي : الأحزاب وهم قريش وغطفان ويهود قريظة والنضير، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بالإظهار والباقون بالإدغام ﴿فأرسلنا﴾ أي : تسبب عن ذلك أنا لما رأينا عجزكم عن مقابلتهم ومقاومتهم أرسلنا ﴿عليهم ريحاً﴾ وهي ريح الصبا قال عكرمة : قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب :
انطلقي بنصرة رسول الله ﷺ فقالت الشمال : إن الحرة لا تسري بالليل فكانت الريح التي أرسلت لهم الصبا لما روى ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه ﷺ قال :"نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور" لأن الصبا ريح فيها روح ما هبت على محزون إلا زال حزنه ﴿وجنوداً﴾ أي : وأرسلنا جنوداً من الملائكة ﴿لم تروها﴾ وكانوا ألفاً ولم تقاتل يومئذ، فبعث الله عليهم تلك الليلة ريحاً باردة فقلعت الأوتاد، وقطعت أطناب الفساطيط، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها على بعض، وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم حتى كان سيد كل حي يقول : يا بني فلان هلم إليَّ، وإذا اجتمعوا عنده قالوا : النجاء النجاء فانهزموا من غير قتال لما بعث الله تعالى عليهم من الرعب ﴿وكان الله﴾ أي : الذي له جميع صفات الجلال والجمال ﴿بما يعملون﴾ أي : الأحزاب من التحزب والتجمع والمكر وغير ذلك ﴿بصيراً﴾ أي : بالغ الإبصار والعلم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٨٦


الصفحة التالية
Icon