﴿قل﴾ أي : لهم وأكد لظنهم نفع الفرار ﴿لن ينفعكم الفرار﴾ في تأخير آجالكم في وقت من الأوقات الذي ما كان استئذانكم إلا بسببه ﴿إن فررتم من الموت أو القتل﴾ أي : الذي كتب لكم لأن الأجل إن كان قد حضر لم يتأخر بالفرار، وإلا لم يقصره الثبات كما كان عليّ رضي الله تعالى عنه يقول : دهم الأمر وتوقد الجمر واشتد من الحرب الحر أي : يومي من الموت أفر يوم لا يقدر، أو يوم قدر، وذلك أن أجل الله الذي جعله محيطاً بالإنسان لا يقدر أن يتعداه أصلاً ﴿وإذا﴾ أي : إن فررتم ﴿لا تمتعون﴾ في الدنيا بعد فراركم ﴿إلا قليلاً﴾ أي : مدة آجالكم وهي قليل فالعاقل لا يرغب في شيء قليل يفوت عليه شيئاً كثيراً.
ولما كان ربما يقولون بل ينفعنا لأنا طالما رأينا من هرب فسلم ومن ثبت فاصطلم، أمره الله تعالى بالجواب عن هذا بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٩٤
قل﴾ أي : لهم منكراً عليهم ﴿من ذا الذي يعصمكم﴾ أي : يجيركم ويمنعكم ﴿من الله﴾ المحيط بكل شيء قدرة وعلماً في حال الفرار وقبله وبعده ﴿إن أراد بكم سوءاً﴾ أي : هلاكاً أو هزيمة فيرد ذلك عنكم ﴿أو﴾ يصيبكم بسوء إن ﴿أراد﴾ أي : الله ﴿بكم رحمة﴾ أي : خيراً أسماه بها لأنه أثرها، والمعنى : هل احترزتم في جميع أعماركم عن سوء أراده فنفعكم الاحتراز أو اجتهد غيره في منعكم رحمة منه، فتم له أمره أو أوقع الله بكم شيئاً من ذلك فقدر أحد مع بذل الجهد على كشفه بدون إذنه، ويمكن أن تكون الآية من الاحتباك ذكر السوء أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً. وذكر الرحمة ثانياً دليلاً على حذف ضدها أولاً. وهذا بيان لقوله تعالى :﴿لن ينفعكم الفرار﴾ وقوله تعالى :﴿ولا يجدون لهم﴾ أي : في وقت من الأوقات ﴿من دون الله﴾ أي : غيره ﴿ولياً﴾ أي : يواليهم فينفعهم بنوع نفع ﴿ولا نصيراً﴾ أي : ينصرهم من أمره فيرد ما أراده بهم من السوء عنهم تقرير لقوله تعالى :﴿من ذا الذي يعصمكم﴾ من الله الآية.
ولما أخبرهم تعالى بما علم مما أوقعوه من أسرارهم وأمره ﷺ بوعظهم، حذرهم بدوام عمله بمن يخون منهم بقوله تعالى :
﴿قد يعلم الله﴾ الذي له إحاطة الجلال والجمال ﴿المعوقين منكم﴾ أي : المثبطين عن رسول الله ﷺ وهم المنافقون ﴿والقائلين لإخوانهم﴾ أي : ساكني المدينة ﴿هلم﴾ أي : ائتوا وأقبلوا ﴿إلينا﴾ موهمين أن ناحيتهم مما يقام فيها القتال ويواظب فيها على صالح الأعمال قال قتادة : هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يثبطون أنصار رسول الله ﷺ ويقولون لإخوانهم ما محمد ﷺ وأصحابه إلا أكلة رأس، ولو كانوا لحماً لا التقمهم أبو سفيان وأصحابه، دعوا الرجل فإنه هالك، وقال مقاتل : نزلت في المنافقين وذلك أن اليهود أرسلت إلى المنافقين وقالوا ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان ومن معه، فإنهم إن قدروا عليكم في هذه المرة لم يستبقوا منكم أحداً، فأنا أشفق عليكم، أنتم إخواننا وجيراننا فهلم إلينا، فأقبل عبد الله بن أُبيّ وأصحابه على المؤمنين يعوقونهم ويخوفونهم بأبي سفيان ومن معه وقالوا : ما ترجون من محمد، ما عنده خير ما هو إلا أن يقتلنا هنا انطلقوا بنا إلى إخواننا يعني اليهود فلم يزداد المؤمنون بقول المنافقين إلا إيماناً واحتساباً.
تنبيه : هلم اسم صوت سمي به فعل متعد مثل احضر وقرب، وأهل الحجاز يسوّون فيه بين الواحد والجماعة، وبلغتهم جاء القرآن العزيز، وأما بنو تميم فتقول : هلم يا رجل هلما يا رجلان هلموا يا رجال ﴿ولا﴾ أي : والحال أنهم لا ﴿يأتون البأس﴾ أي : الحرب أو مكانها ﴿إلا قليلاً﴾ أي : للرياء والسمعة بقدر ما يراهم المخلصون، فإذا اشتغلوا بالمعاركة وكفى كل منهم ما إليه
٢٩٥
تسللوا عنه لواذاً وعاذوا بمن لا ينفعهم من الخلق عياذاً.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٩٤
أشحة﴾ أي : يفعلون ما تقدم، والحال أن كلاً منهم شحيح ﴿عليكم﴾ أي : بحصول نفع منهم أو من غيرهم نفس أو مال.