تنبيه : أشحة جمع شحيح وهو جمع لا يقاس، إذ قياس فعيل الوصف الذي عينه ولامه من واد واحد أن يجمع على أفعلاء نحو : خليل وأخلاء، وضنين وأضناء، وقد سمع أشحاء وهو القياس والشح البخل، وصفهم الله تعالى بالبخل ثم بالجبن. قوله تعالى ﴿فإذا جاء الخوف﴾ أي : بمجيء أسبابه من الحرب ومقدماتها ﴿رأيتهم﴾ أي : أيها المخاطب. وقوله تعالى :﴿ينظرون﴾ في محل حال من مفعول رأيتهم لأن الرؤية بصرية، وبيَّن بعدهم حساً ومعنى بحرف الغاية بقوله تعالى :﴿إليك﴾ أي : حال كونهم ﴿تدور﴾ فهي إما حال ثانية، وإما حال من ينظرون يميناً وشمالاً بإدارة الطرف ﴿أعينهم﴾ أي : زائغاً رعباً ثم شبهها في سرعة تقلبها لغير قصد صحيح بقوله تعالى :﴿كالذي﴾ أي : كدوران عين الذي ﴿يغشى عليه﴾ مبتدأ غشيانه ﴿من الموت﴾ أي : من معالجة سكراته خوفاً ولواذاً بك، وذلك لأن قرب الموت وغشية أسبابه تذهب عقله وتشخص بصره فلا يطرف ﴿فإذا ذهب الخوف﴾ وحيزت الغنائم ﴿سلقوكم﴾ أي : تناولوكم تناولاً صعباً بأنواع الأذى ناسين ما وقع منهم عن قرب من الجبن والخور، وأصل السلق البسط بقهر اليد أو اللسان، ومنه سلق امرأته أي : بسطها وجامعها قال القائل :
فقد هُيّء لنا المضجع فإن شئت سلقناك وإن شئت على أربع، والسليقة : الطبيعة المباينة، والسليق : المطمئن من الأرض ﴿بألسنة حداد﴾ ذربة قاطعة فصيحة بعد أن كانت عند الخوف في غاية اللجلجة لا تقدر على الحركة من قلة الريق ويبس الشفاه، وهذا لطلب العرض الفاني من الغنيمة وغيرها. يقال للخطيب الذرب اللسان : الفصيح مسلق، وقال ابن عباس سلقوكم أي : عضهوكم وتناولوكم بالنقص والغيبة وقال قتادة : بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسمة الغنيمة، ويقولون أعطونا فإنا شهدنا معكم القتال ولستم بأحق بالغنيمة منا، ثم بين المراد بقوله تعالى :﴿أشحة﴾ أي : شحاً مستعلياً ﴿على الخير﴾ أي : المال الذي عندهم وفي اعتقادهم أنه لا خير غيره لا يريدون أن يصل شيء منه إليكم ولا يفوتهم شيء منه فهم عند الغنيمة أشح قوم وعند البأس أجبن قوم.
ولما وصفهم تعالى بهذه الصفات الدنيئة أخبر تعالى أن أساسها الذي نشأت عنه عدم الوثوق بالله تعالى لعدم الإيمان فقال :﴿أولئك﴾ أي : البعداء البغضاء ﴿لم يؤمنوا﴾ أي : لم يوجد منهم إيمان بقلوبهم وإن أقرت به ألسنتهم ﴿فأحبط الله﴾ أي : بجلاله وتفرده في كبريائه وكماله
٢٩٦
﴿أعمالهم﴾ التي كانوا يأتونها مع المسلمين أي : فأظهر بطلانها، وإذا لم تثبت لهم الأعمال فتبطل، وقال قتادة : أبطل الله تعالى جهادهم ﴿وكان ذلك﴾ أي : الإحباط ﴿على الله﴾ بما له من صفات العظمة ﴿يسيراً﴾ أي : هيناً لتعلق الإرادة به وعدم ما يمنعه. وقوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٩٤
يحسبون الأحزاب لم يذهبوا﴾
يجوز أن يكون مستأنفاً أي : هم من الخوف بحيث أنهم لا يصدقون أن الأحزاب قد ذهبوا عنهم، ويجوز أن يكون حالاً من أحد الضمائر المتقدمة إذا صح المعنى بذلك ولو بعد العامل. قاله أبو البقاء.
والمعنى : أن هؤلاء المنافقين يحسبون الأحزاب يعني قريشاً وغطفان واليهود ولم يتفرقوا عن قتالهم من غاية الجبن عند ذهابهم كأنهم غائبون حيث لا يقاتلون كقوله تعالى ﴿ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلاً﴾ (الأحزاب : ٢٠)
وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين والباقون بالكسر ﴿وإن يأت الأحزاب﴾ بعدما ذهبوا كرة أخرى ﴿يودوا﴾ أي : يتمنوا ﴿لو أنهم بادون في الأعراب﴾ أي : كائنون في البادية بين الأعراب الذين هم عندهم في محل نقص وممن تكره مخالطته، ثم ذكر حال فاعل بادون بقوله تعالى :﴿يسألون﴾ كل وقت ﴿عن أنبائكم﴾ أي : أخباركم العظيمة مع الكفار وما آل إليه أمركم جرياً على ما هم عليه من النفاق ليبقوا لهم عندكم وجهاً، كأنهم مهتمون بكم يظهرون بذلك تحرقاً على غيبتهم عن هذه الحرب ﴿ولو﴾ أي : والحال أنهم لو ﴿كانوا﴾ هؤلاء المنافقون ﴿فيكم﴾ هذه الكرة ولم يرجعوا إلى المدينة، وكان قتال ﴿ما قاتلوا﴾ معكم ﴿إلا قليلاً﴾ نفاقاً كما فعلوا قبل ذهاب الأحزاب من حضورهم معكم تارة واستئذانهم في الرجوع إلى منازلهم أخرى.
ولما أخبر تعالى عنهم بهذه الأحوال التي هي غاية في الدناءة أقبل عليهم إقبالاً يدلهم على تناهي الغضب بقوله تعالى : مؤكداً محققاً لأجل إنكارهم :
﴿لقد كان لكم﴾ أيها الناس كافة الذين المنافقون في غمارهم ﴿في رسول الله﴾ الذي جلاله من جلاله وكماله من كماله ﴿أسوة﴾ أي : قدوة ﴿حسنة﴾ أي : صالحة وهو المؤتسى به أي : المقتدى به، كما تقول في البيضة : عشرون منَّاً حديداً أي : هي في نفسها هذا المبلغ من الحديد، أو أن فيه خصلة حسنة من حقها أن يؤتسى بها، كالثبات في الحرب ومقاسات الشدائد إذ كسر رباعيته وجرح وجهه وقتل عمه، وأوذي بضروب الأذى، فواساكم مع ذلك بنفسه فافعلوا أنتم كذلك واستسنوا بسنته.


الصفحة التالية
Icon