تنبيه : الأسوة اسم وضع موضع المصدر وهو الائتساء، فالأسوة من الائتساء كالقدوة من الاقتداء وائتسى فلان بفلان أي : اقتدى به، وقرأ عاصم بضم الهمزة والباقون بكسرها وهما لغتان : كالعُدوة والعِدوة، والقُدوة والقِدوة وقوله تعالى :﴿لمن كان﴾ أي : كوناً كائنه جبلة له ﴿يرجو الله﴾ أي : في جبلته أنه يجدد الرجاء مشمراً للذي لا عظيم في الحقيقة سواه، فيؤمل إسعاده ويخشى إبعاده. تخصيص بعد التعميم للمؤمنين أي : أن الأسوة برسول الله ﷺ لمن كان يرجو الله. قال ابن عباس : يرجو ثواب الله، وقال مقاتل : يخشى الله ﴿واليوم الآخر﴾ أي : يخشى يوم البعث الذي فيه جزاء الأعمال ﴿وذكر الله﴾ أي : الذي له صفات الكمال وقيده بقوله تعالى :﴿كثيراً﴾ تحقيقاً لما ذكر في معنى الرجاء الذي به الفلاح أو أن المراد به الدائم في حال السراء والضراء.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٩٤
ولما بين تعالى حال المنافقين ذكر حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب بقوله تعالى :
﴿ولما رأى
٢٩٧
المؤمنون﴾
أي : الكاملون في الإيمان ﴿الأحزاب﴾ أي : الذين أدهشت رؤيتهم القلوب ﴿قالوا﴾ أي : مع ما حصل لهم من الزلزال وتعاظم الأهوال ﴿هذا﴾ أي : الذي نراه من الهول ﴿ما وعدنا الله﴾ أي : الذي له الأمر كله من تصديق دعوانا الإيمان بالبلاء والامتحان ﴿ورسوله﴾ المبلغ بنحو قوله تعالى :﴿أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم﴾ (البقرة : ٢١٤)
﴿أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم﴾ (آل عمران : ١٤٢)
﴿أحسب الناس أن يتركوا﴾ (العنكبوت : ٢)
وأمثال ذلك. ثم قالوا في مقابلة قول المنافقين : ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً ﴿وصدق الله﴾ أي : الذي له صفات الكمال ﴿ورسوله﴾ أي : الذي كماله من كماله أي : ظهر صدقهما في عالم الشهادة في كل ما وعدا به من السراء والضراء كما رأينا، وهما صادقان فيما غاب عنا مما وعدا به من نصر وغيره، وإظهار الاسمين للتعظيم والتيمن بذكرهما. قال بعض المفسرين : ولو أعيدا مضمرين لجمع بين الباري تعالى واسم رسوله ﷺ فكان يقال : وصدقا، وقد رد ﷺ على من جمعهما بقوله :﴿من يطع الله ورسوله﴾ فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، وأنكر عليه بقوله : بئس خطيب القوم أنت. قل :﴿ومن يعص الله ورسوله﴾ قصداً إلى تعظيم الله تعالى. وقيل : إنما رد عليه لأنه وقف على يعصهما، واستشكل بعضهم الأول بقوله :"حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما" فقد جمع بينهما في ضمير واحد ؟
وأجيب : بأنه ﷺ أعرف بقدر الله تعالى منا فليس لنا أن نقول كما يقول وقد يقال : إذا كان رسول الله ﷺ يقول ذلك فالله جل وعلا أولى، وحينئذ فالقائل بأنه إنما رد عليه لأنه وقف على يعصهما أولى.
ولما كان هذا قولاً يمكن أن يكون لسانياً فقط كقول المنافقين أكده لظن المنافقين ذلك بقوله تعالى : شاهداً لهم ﴿وما زادهم﴾ أي : ما رأوه من أمرهم أو الرعب ﴿إلا إيماناً﴾ بالله ورسوله ﴿وتسليماً﴾ بجميع جوارحهم في جميع القضاء والقدر، ثم وصف الله تعالى بعض المؤمنين بقوله تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٩٤
أي : المذكورين سابقاً وغيرهم ﴿رجال﴾ أي : في غاية العظمة عندنا ثم وصفهم بقوله تعالى :﴿صدقوا ما عاهدوا الله﴾ المحيط علماً وقدرة ﴿عليه﴾ أي : أقاموا بما عاهدوا الله عليه ووفوا به ﴿فمنهم من قضى نحبه﴾ أي : نذره بأن قاتل حتى استشهد كحمزة ومصعب بن عمير وأنس بن النضر. والنحب : النذر استعير للموت لأنه كنذر لازم في رقبة كل حيوان وقيل : النحب الموت أيضاً. قال قتادة : قضى نحبه أي : أجله. وقيل : قضى نحبه أي : بذل جهده في الوفاء بالعهد من قول العرب نحب فلان في سيره يومه وليلته أي : اجتهد، وقيل قضى نحبه قتل يوم بدر أو يوم أُحد.
روي أن أنساً قال :"غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال : يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال : اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني أصحابه وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين، ثم تقدم واستقبله سعد بن معاذ فقال : يا أبا عمرو إلى أين فقال : واهاً لريح الجنة أجدها دون أحد، فقاتل حتى قتل. قال أنس بن مالك : فوجدنا في جسده بضعاً وثمانين
٢٩٨
ضربة بالسيف، أو طعنة برمح أو رمية بسهم فوجدناه قد قتل، وقد مثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه. قال أنس : كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه".
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٩٨


الصفحة التالية
Icon