ومنهم} أي : الصادقين ﴿من ينتظر﴾ أي : السعادة كعثمان وطلحة ﴿وما بدلوا﴾ أي : العهد ولا غيروه ﴿تبديلاً﴾ أي : شيئاً من التبديل. روي أن ممن لم يقتل في عهد النبي ﷺ طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ثبت مع رسول الله ﷺ يوم أحد، وفعل ما لم يفعله غيره لزم النبي ﷺ فلم يفارقه وذبَّ عنه ووقاه بيده حتى شلت إصبعه قال إسماعيل بن قيس : رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي ﷺ يوم أحد، وعن معاوية سمعت النبي ﷺ يقول :"طلحة ممن قضى نحبه"، وعن طلحة لما رجع النبي ﷺ من أحد صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قرأ :﴿رجال صدقوا وما عاهدوا الله عليه﴾ الآية كلها فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله من هؤلاء فقال :"أيها السائل هذا منهم"، وعنه أيضاً : أن أصحاب النبي ﷺ قالوا لأعرابي جاهل : سله عمن قضى نحبه من هو ؟
كانوا لا يجترؤن على مسألته يهابونه ويوقرونه، فسأله الأعرابي فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم إني طلعت من باب المسجد فقال : أين السائل عمن قضى نحبه ؟
قال الأعرابي : أنا فقال :"هذا ممن قضى نحبه"، وهذا يقوي القول بأن المراد بالنحب بذل الجهد في الوفاء بالعهد، وعن خباب بن الأرت قال : هاجرنا مع رسول الله ﷺ في سبيل الله نبتغي وجه الله فوجب أجرنا على الله، فمنا من مضى لم يأكل من أجره شيئاً، منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد فلم يوجد له شيء يكفن فيه إلا نمرة، فكنا إذا وضعناها على رأسه خرجت رجلاه منها، وإذا وضعناها على رجليه خرج رأسه منها فقال ﷺ "ضعوها مما يلي رأسه واجعلوا على رجليه من الأذخر" قال : ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهديها أينعت أي : أدركت ونضجت له ثمرتها ويهديها أي : يجنيها، وهذا كناية عما فتح الله تعالى لهم من الدنيا وعن زيد بن ثابت قال :"لما نسخنا المصحف من المصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله ﷺ يقرؤها لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي جعل رسول الله ﷺ شهادته بشهادة رجلين من المؤمنين ﴿رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه﴾ فألحقتها في سورتها في المصحف".
﴿ليجزي الله﴾ أي : الذي يريد إظهار جميع صفاته يوم البعث للخاص والعام ظهوراً تاماً ﴿الصادقين﴾ أي : في الوفاء بالعهد وادعاء أنهم آمنوا به ﴿بصدقهم﴾ أي : فيعلي أمرهم وينعمهم
٢٩٩
في الآخرة فالصدق سبب وإن كان فضلاً منه لأنه الموفق له.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٩٨
تنبيه : في لام ليجزي وجهان : أحدهما : أنها لام العلة، والثاني : أنها لام الصيرورة وفيما تتعلق به أوجه : إما بصدقوا، وإما بما زادهم، وإما بما بدلوا، وعلى هذا جعل المنافقين كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوا بتبديلهم كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم لأن كلا الفريقين مسوق إلى عاقبته من الثواب والعقاب، فكأنهما استويا في طلبهما والسعي لتحصيلهما ﴿ويعذب المنافقين﴾ أي : الذين أخفوا الكفر وأظهروا الإسلام في الدارين بكذبهم في دعواهم الإيمان المقتضي لبيع النفس والمال ﴿إن شاء﴾ بأن يميتهم على نفاقهم ﴿أو يتوب عليهم﴾ إن شاء بأن يهديهم إلى التوبة فيتوبوا فالكل بإرادته.
تنبيه : جواب إن شاء مقدر، وكذا مفعول شاء أي : إن شاء تعذيبهم عذبهم، وقرأ قالون والبزي وأبو عمر بإسقاط الهمزة الأولى مع المد والقصر، وسهل ورش وقنبل الثانية وأبدلاها أيضاً حرف مد وحققها الباقون وفي الابتداء بالثانية الجميع بالتحقيق.
ولما كانت توبة المنافقين مستبعدة لما يرون من صلابتهم في الخداع وخبث سرائرهم قال معللاً ذلك كله على وجه التأكيد :﴿إن الله﴾ أي : بما له من الجلال والجمال ﴿كان﴾ أزلاً وأبداً ﴿غفوراً﴾ لمن تاب ﴿رحيماً﴾ بهم، ثم بين تعالى بعض ما جزاهم الله تعالى بصدقهم بقوله تعالى :
﴿ورد الله﴾ أي : بما له من صفات الكمال ﴿الذين كفروا﴾ وهم من تحزب من العرب وغيرهم على رسول الله ﷺ إلى بلادهم عن المدينة ومضايقة المؤمنين حال كونهم ﴿بغيظهم﴾ أي : متغيظين لم يشف صدورهم بنيل ما أرادوا، بل تفرقوا عن غير طائل حال كونهم ﴿لم ينالوا خيراً﴾ لا من الدين ولا من الدنيا بل ذلاً وندامة فهو حال ثانية، أو حال من الحال الأولى فهي متداخلة ﴿وكفى الله﴾ أي : الذي له العزة والكبرياء ﴿المؤمنين القتال﴾ بما ألقى في قلوبهم من الداعية للانصراف بالريح والجنود من الملائكة وغيرهم، منهم نعيم بن مسعود لما تقدم من الحيلة التي فعلها.


الصفحة التالية
Icon