قال سعيد بن المسيب : لما كان يوم الأحزاب حصر النبي ﷺ بضع عشرة ليلة حتى خلص إلى كل امرئ منهم الكرب، وحتى قال النبي ﷺ "اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إنك إن تشا لا تعبد"، فبينما هم على ذلك إذ جاء نعيم بن مسعود الأشجعي وكان يأمنه الفريقان جميعاً فخذل بين الناس فانطلق الأحزاب منهزمين من غير قتال فذلك قوله تعالى :﴿وكفى الله المؤمنين القتال﴾ ﴿وكان الله﴾ أي : الذي له صفات الكمال أزلاً وأبداً ﴿قوياً﴾ على إحداث ما يريد ﴿عزيزاً﴾ غالباً على كل شيء.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٩٨
ولما أتم الله حال الأحزاب أتبعه حال من عاونوهم بقوله تعالى :
﴿وأنزل الذين ظاهروهم﴾ أي : عاونوا الأحزاب ﴿من أهل الكتاب﴾ وهم بنو قريظة ومن دخل معهم في حصنهم من بني النضير ﴿من صياصيهم﴾ أي : حصونهم متعلق بأنزل، ومن لابتداء الغاية والصياصي جمع صيصية وهي الحصون والقلاع والمعاقل، ويقال : لكل ما يمتنع به ويتحصن فيه صيصية، ومنه قيل لقرن الثور والظبي ولشوكة الديك صيصية، عن سعيد بن جبير قال : كان يوم الخندق بالمدينة فجاء أبو
٣٠٠
سفيان بن حرب ومن تبعه من قريش، ومن تبعه من كنانة وعيينة بن حصن، ومن تبعه من غطفان وطليحة، ومن تبعه من بني أسد وبنو الأعور، ومن تبعهم من بين سليم وقريظة، كان بينهم وبين رسول الله ﷺ عهد فنقضوا ذلك وظاهروا المشركين فأنزل الله تعالى فيهم :﴿وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم﴾.
وكانت غزوة بني قريظة في آخر ذي القعدة سنة خمس من الهجرة، وعن موسى بن عقبة أنها في سنة أربع قال العلماء بالسير : إن رسول الله ﷺ لما أصبح في الليلة التي انصرف الأحزاب راجعين إلى بلادهم انصرف رسول الله ﷺ والمؤمنون عن الخندق إلى المدينة ووضعوا السلاح فلما كان الظهر أتى جبريل عليه السلام إلى رسول الله ﷺ على فرسه الحيزوم والغبار على وجه الفرس والسرج فقال : ما هذا يا جبريل قال : من متابعة قريش فجعل رسول الله ﷺ يمسح الغبار عن وجه الفرس وعن سرجه فقال : يا رسول الله إن الملائكة لم تضع السلاح إن الله تعالى يأمرك بالسير إلى بني قريظة وأنا عامد إليهم، فإن الله دقهم دق البيض على الصفا وإنهم لك طعمة فأذن في الناس أن من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلي العصر إلا في بني قريظة وقدم رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب برايته إليهم وابتدرها الناس.
فسار عليّ حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله ﷺ فرجع حتى لقي رسول الله ﷺ بالطريق فقال : يا رسول الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخباث قال : أظنك سمعت فيَّ منهم أذى قال : نعم يا رسول الله قال لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئاً، فلما دنا رسول الله ﷺ من حصنهم قال : يا إخوان القردة هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمة قالوا : يا أبا القاسم ما كنت جهولاً، ومر رسول الله ﷺ على أصحابه قبل أن يصل إلى بني قريظة قال : هل مر بكم أحد قالوا : مر بنا دحية بن خليفة على بغلة شهباء عليها قطيفة من ديباج قال ﷺ ذاك "جبريل بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف في قلوبهم الرعب".
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٩٨
ولما أتى رسول الله ﷺ بني قريظة نزل على بئر من آبارها فتلاحق به الناس فأتاه رجال من بعد صلاة العشاء الآخرة ولم يصلوا العصر لقول رسول الله ﷺ "لا يصلي أحد العصر إلا في بني قريظة" فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة فما عابهم الله تعالى بذلك، ولا عنفهم رسول الله ﷺ وكان جي بن أخطب دخل على بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده، فلما أيقنوا أن رسول الله ﷺ غير منصرف عنهم حتى يناجزهم قال كعب بن أسد : يا معشر يهود إنه قد نزل بكم من الأمر ما نزل، وإني عارض عليكم خلالاً ثلاثاً فخذوا أيها شئتم قالوا : وما هي قال : نبايع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد تبين أنه نبي مرسل، وأنه الذي تجدونه في كتابكم فتأمنوا على دياركم وأبنائكم وأموالكم ونسائكم.
قالوا : لا نفارق حكم التوراة أبداً ولا نستبدل به غيره، قال : فإذا أبيتم هذا فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد ﷺ وأصحابه رجالاً مصلتين بالسيوف ولم نترك وراءنا ثقلاً يهمنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد وأصحابه، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا أحداً ولا شيئاً
٣٠١


الصفحة التالية
Icon