وأنزل الله تعالى توبة أبي لبابة على رسول الله ﷺ وهو في بيت أم سلمة، فسمعت رسول الله ﷺ يضحك فقالت : مم تضحك يا رسول الله أضحك الله تعالى سنك فقال : تيب على أبي لبابة فقالت : ألا أبشره بذلك يا رسول الله قال : بلى إن شئت، فقامت على باب حجرتها وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب فقالت : يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله تعالى عليك، فثار الناس إليه ليطلقوه فقال : لا والله حتى يكون رسول الله ﷺ هو الذي يطلقني بيده، فلما مر عليه خارجاً إلى الصبح أطلقه، ومات سعد بن معاذ بعد انقضاء غزوة بني قريظة.
قالت عائشة : فحضره رسول الله ﷺ وأبو بكر وعمر، فو الذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وإني لفي حجرتي، قالت : وكانوا كما قال الله تعالى ﴿رحماء بينهم﴾ (الفتح : ٢٩)
واختلف في تفسير قوله تعالى ﴿وأرضاً﴾ أي : وأورثكم أرضاً ﴿لم تطؤها﴾ فعن مقاتل أنها خيبر وعليه أكثر المفسرين، وعن الحسن فارس والروم، وعن قتادة كما تحدث أنها مكة، وعن عكرمة كل أرض تفتح إلى القيامة، ومن بدع التفسير أنه أراد نساءهم انتهى.
ولما كان ذلك أمراً باهراً سهله بقوله تعالى :﴿وكان الله﴾ أي : أزلاً وأبداً بما له من صفات الكمال ﴿على كل شيء﴾ هذا وغيره ﴿قديراً﴾ أي : شامل القدرة، روى أبو هريرة أن رسول الله ﷺ كان يقول :"لا إله إلا الله وحده أعز جنده ونصر عبده وغلب الأحزاب وحده فلا شيء بعده" ولما أرشد الله تعالى نبيه ﷺ إلى جانب ما يتعلق بجانب التعظيم لله تعالى بقوله تعالى :﴿يا أيها النبي اتق الله﴾ ذكر ما يتعلق بجانب الشفقة، وبدأ بالزوجات فإنهن أولى الناس بالشفقة ولهذا قدمهن في النفقة فقال :
﴿يا أيها النبي قل لأزواجك﴾ أي : نسائك ﴿إن كنتن﴾ أي : كوناً راسخاً ﴿تردن﴾ أي : اختياراً على ﴿الحياة﴾ ووصفها بما يزهد فيها ذوي الهمم، ويذكر من له عقل بالآخرة بقوله تعالى :﴿الدنيا﴾ أي : ما فيها من السعة والرفاهية والنعمة ﴿وزينتها﴾ أي : المنافية لما أمرني به ربي من الإعراض عنه واحتقاره من أمرها لأنها أبغض خلقه إليه لأنها قاطعة عنه
٣٠٣
﴿فتعالين﴾ أصله أن الآمر يكون أعلى من المأمور فيدعوه أن يرفع نفسه إليه، ثم كثر حتى صار معناه أقبل وهو هنا كناية عن الأخبار والإرادة بعلاقة أن المخبر يدنو إلى من يخبره ﴿أمتعكن﴾ أي : بما أحسن به إليكن من متعة الطلاق، وهي واجبة لزوجة لم يجب لها نصف مهر فقط بأن وجب لها جميع المهر، أو كانت مفوضة لم توطأ ولم يفرض لها شيء صحيح.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٩٨
أما في الأولى : فلأن المهر في مقابلة منفعة بضعها، وقد استوفاها الزوج فتجب للإيحاش المتعة، وأما في الثانية : فلأن المفوضة لم يحصل لها شيء، فيجب لها متعة للإيحاش، بخلاف من وجب لها النصف فلا متعة لها لأنه لم يستوف منفعة بضعها فيكفي نصف مهرها للإيحاش. هذا إذا كان الفراق لا بسببها، وسن أن لا تنقص عن ثلاثين درهماً أو ما قيمته ذلك، وأن لا تبلغ نصف المهر، فإن تراضيا على شيء فذاك، وإلا قدرها قاض باجتهاده بقدر حالهما من يساره وإعساره ونسبها وصفاتها قال تعالى ﴿ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره﴾ (البقرة : ٢٣٦)
﴿وأسرحكن﴾ أي : من حبالة عصمتي ﴿سراحاً جميلاً﴾ أي : طلاقاً من غير مضارة ولا نوع حطة ولا مقاهرة.
﴿وإن كنتن﴾ أي : بما لكن من الجبلة ﴿تردن الله﴾ أي : الآمر بالإعراض عن الدنيا ﴿ورسوله﴾ أي : المؤتمر بما أمره به من الانسلاخ عنها، المبلغ للعباد جميع ما أرسله به من أمر الدنيا والدين، لا يدع منه شيئاً لما له عليكن وعلى سائر الناس من الحق بما يبلغهم عن الله تعالى ﴿والدار الآخرة﴾ أي : التي هي الحيوان بما لها من البقاء والعلو والارتقاء ﴿فإن الله﴾ بما له من جميع صفات الكمال ﴿أعد﴾ أي : في الدنيا والآخرة ﴿للمحسنات منكن﴾ أي : اللاتي يفعلن ذلك ﴿أجراً عظيماً﴾ تستحقر دونه الدنيا وزينتها، ومن للبيان لأنهن كلهن محسنات قال المفسرون : سبب نزول هذه الآية : أن نساء النبي ﷺ سألنه من عرض الدنيا شيئاً، وطلبن منه زيادة في النفقة وآذينه بغيرة بعضهن على بعض، فهجرهن رسول الله ﷺ وآلى أن لا يقربهن شهراً ولم يخرج إلى أصحابه فقالوا : ما شأنه وكانوا يقولون : طلق رسول الله ﷺ نساءه، فقال عمر : لأعلمن لكم شأنه قال : فدخلت على رسول الله ﷺ فقلت : يا رسول الله أطلقتهن قال : لا فقلت : يا رسول الله إني دخلت المسجد والمسلمون يقولون : طلق رسول الله ﷺ نساءه، أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن قال : نعم إن شئت.