فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي لم يطلق رسول الله ﷺ نساءه" ونزل قوله تعالى :﴿وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم﴾ (النساء : ٨٣)
فكنت أنا الذي استنبط ذلك الأمر، وأنزل الله تعالى آية التخيير وكان تحت رسول الله ﷺ تسع نسوة، خمس من قريش عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وأم سلمة بنت أبي أمية، وسودة بنت زمعة، وأربع من غير القريشيات : زينب بنت جحش الأسدية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٩٨
فلما نزلت آية التخيير عرض عليهن رضي الله تعالى عنهن ذلك، وبدأ رسول الله ﷺ بعائشة رأس المحسنات إذ ذاك، وكانت أحب أهله فخيرها وقرأ عليها القرآن فاختارت الله ورسوله والدار
٣٠٤
الآخرة، فرؤي الفرح في وجه رسول الله ﷺ وتابعنها على ذلك قال قتادة : فلما اخترن الله ورسوله شكرهن الله على ذلك وقصره عليهن فقال تعالى :﴿لا يحل لك النساء من بعد﴾ (الأحزاب : ٥٢)
وعن جابر بن عبد الله قال : دخل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن على رسول الله ﷺ فوجد الناس جلوساً ببابه لم يؤذن لأحد منهم، فأذن لأبي بكر فدخل، ثم أقبل عمر ثم استأذن فأذن له، فوجد النبي ﷺ جالساً حوله نساؤه واجماً ساكتاً قال : فقال لأقولن شيئاً أضحك النبي ﷺ فقال : يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها فضحك النبي ﷺ وقال :"هن حولي كما ترى يسألنني النفقة"، فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها كلاهما يقول : لا تسألن رسول الله ﷺ شيئاً أبداً ليس عنده، ثم اعتزلهن شهراً أو تسعاً وعشرين يوماً، ثم نزلت هذه الآية ﴿يا أيها النبي قل لأزواجك﴾ (الأحزاب : ٢٨)
حتى بلغ ﴿للمحسنات منكن أجراً عظيماً﴾ (الأحزاب : ٢٩)
قال : فبدأ بعائشة فقال : يا عائشة إني أعرض عليك أمراً لا أحب أن تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك قالت : وما هو يا رسول الله فتلا عليها الآية فقالت : أفيك يا رسول الله أستشير أبوي بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة، وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت قال : لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها أن الله لم يبعثني معنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً قوله "واجماً" أي : مهتماً والواجم : الذي أسكته الهم، وعلته الكآبة وقيل : الوجوم الحزن، وقوله : فوجأت عنقها أي : دققته، وقوله : لم يبعثني معنتاً العنت : المشقة والصعوبة، وروى الزهري أن النبي ﷺ أقسم أن لا يدخل على أزواجه شهراً، قال الزهري : فأخبرني عروة عن عائشة قالت : فلما مضت تسع وعشرون أعدهن دخل عليّ فقلت : يا رسول الله إنه مضى تسع وعشرون أعدهن فقال :"إن الشهر تسع وعشرون".
تنبيه : اختلف العلماء في هذا الخيار هل كان ذلك تفويضاً للطلاق إليهن حتى يقع بنفس الاختيار أو لا، ذهب الحسن وقتادة وأكثر أهل العلم : إلى أنه لم يكن تفويض الطلاق، وإنما خيرهن على أنهن إذا اخترن الدنيا فارقهن لقوله تعالى :﴿فتعالين أمتعكن وأسرحكن﴾ ويدل عليه أنه لم يكن جوابهن على الفور فإنه قال لعائشة : لا تعجلي حتى تستشيري أبويك، وفي تفويض الطلاق يكون الجواب على الفور، وذهب آخرون : إلى أنه كان تفويض طلاق، ولو اخترن أنفسهن كان طلاقاً.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٩٨
واختلف العلماء في حكم التخيير : فقال عمر وابن مسعود وابن عباس : إذا خير الرجل امرأته فاختارت زوجها لا يقع شيء، ولو اختارت نفسها وقع طلقة واحدة، وهو قول عمر بن عبد العزيز وابن أبي ليلى وسفيان والشافعي وأصحاب الرأي، إلا أن عند أصحاب الرأي : أنه يقع طلقة بائنة إذا اختارت نفسها.
٣٠٥
وعند الآخرين : رجعية. وقال زيد بن ثابت : إذا اختارت الزوج تقع طلقة واحدة، وإن اختارت نفسها فثلاث وهو قول الحسن ورواية عن مالك، وروي عن علي : أنها إذا اختارت زوجها تقع طلقة واحدة رجعية، وإن اختارت نفسها فطلقة بائنة، وأكثر العلماء على أنها إذا اختارت زوجها لا يقع شيء.
وعن مسروق قال : ما أبالي خيرت امرأتي واحدة أو مائة أو ألفاً بعد أن تختارني. قال الرازي : وهنا مسائل :
منها هل كان هذا التخيير واجباً على النبي ﷺ أم لا، والجواب : أن التخيير كان قولاً واجباً من غير شك لأنه إبلاغ لرسالة لأن الله تعالى لما قال له : قل لهن صار من الرسالة، وأما التخيير معنى فمبني على أن الأمر للوجوب أم لا، والظاهر أنه للوجوب.


الصفحة التالية
Icon