ولما استعار للمعصية الرجس استعار للطاعة الطهر ترغيباً لأصحاب الطباع السليمة والعقول المستقيمة في الطاعة وتنفيراً لهم عن المعصية بقوله تعالى :﴿ويطهركم﴾ أي : يفعل في طهركم الصيانة عن جميع القاذورات الحسية والمعنوية فعل المبالغ فيه، وزاد ذلك عظماً بالمصدر بقوله تعالى :﴿تطهيراً﴾ وعن ابن عباس قال : شهدنا رسول الله ﷺ تسعة أشهر يأتي كل يوم باب علي بن أبي طالب عند وقت كل صلاة فيقول : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ﴿إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً﴾ الصلاة رحمكم الله كل يوم خمس مرات، ثم بين تعالى ما أنعم الله به عليهن من أن بيوتهن مهابط الوحي بقوله تعالى :
﴿واذكرن﴾ أي : في أنفسكن ذكراً دائماً، واذكرنه لغيركن على جهة الوعظ والتعليم ﴿ما يتلى﴾ أي : يتابع ويوالى ذكره ﴿في بيوتكن﴾ أي : بواسطة النبي ﷺ الذي خيركن. وقوله تعالى :﴿من آيات الله﴾ أي : القرآن بيان للموصول فيتعلق بأعني، ويجوز أن يكون حالاً إما من الموصول، وإما من عائده المقدر فيتعلق بمحذوف أيضاً، واختلف في قوله تعالى :﴿والحكمة﴾ فقال قتادة : يعني السنة، وقال مقاتل : أحكام القرآن ومواعظه ﴿إن الله﴾ أي : الذي له جميع العظمة ﴿كان﴾ أي : ولم يزل ﴿لطيفاً﴾ أي : يوصل إلى المقاصد بلطائف الأضداد ﴿خبيراً﴾ أي : بجميع خلقه يعلم ما يسرون وما يعلنون لا تخفى عليه خافية، فيعلم من يصلح لبيت النبي ﷺ ومن لا، وما يصلح الناس ديناً ودنيا، وما لا يصلحهم. والطرق الموصلة لكل ما قضاه وقدره وإن كانت على غير ما يألفه الناس.
من انقطع إلى الله كفاه الله تعالى كل مؤنة ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها، ولقد صدق الله تعالى وعده في لطفه وحقق بره في خبره بأن فتح على نبيه ﷺ خبير، فأفاض بها من رزقه الواسع، ولما توفى نبيه ﷺ ليحميه من زهرة الحياة الدنيا فتح الفتوحات الكبار من بلاد فارس والروم ومصر وما بقي من اليمن، فعم الفتح جميع الأقطار، الشرق والغرب والجنوب والشمال، ومكن أصحاب نبيه ﷺ من كنوز تلك البلاد وذخائر أولئك الملوك حتى صار الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يكيلون المال كيلاً، وزاد الأمر حتى دوّن عمر رضي الله تعالى عنه الدواوين.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٠٧
وفرض للناس عامة أرزاقهم حتى للرضعاء، وكان أولاً لا يفرض للمولود حتى يفطم، فكانوا يستعجلون بالفطام فنادى مناديه لا تعجلوا أولادكم بالفطام فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام، وفاوت بين الناس في العطاء بحسب القرب من النبي ﷺ والبعد منه، وبحسب السابقة في الإسلام والهجرة. ونزل الناس منازلهم بحيث أرضى جميع الناس، حتى قدم عليه خالد بن عرفطة فسأله عما وراءه فقال : تركتهم يسألون الله تعالى أن يزيد في عمرك من أعمارهم، قال عمر : إنما هو حقهم، وأنا أسعى بأدائه
٣١١
إليهم وإني لأعم بنصيحتي كل من طوقني الله أمره، فإن رسول الله ﷺ قال :"من مات غاشاً لرعيته لم يَرَ ريح الجنة" فكان فرضه لأزواج النبي ﷺ اثني عشر ألفاً لكل واحدة، وهي نحو ألف دينار في كل سنة، وأعطى عائشة خمسة وعشرين ألفاً لحب رسول الله ﷺ إياها، فأبت أن تأخذ إلا ما تأخذه صواحباتها.
وروي عن برزة بنت رافع قالت : لما خرج العطاء أرسل عمر إلى زينب بنت جحش بالذي لها، فلما أدخل إليها قالت : غفر الله لعمر، غيري من أخواتي أقوى على قسم هذا مني قالوا : هذا كله لك قالت : سبحان الله ثم قالت : صبوه واطرحوا عليه ثوباً، ثم قالت لي : أدخلي يديك واقبضي منه قبضة فاذهبي بها إلى بني فلان وبني فلان من ذوي رحمها وأيتام لها، فقسمته حتى بقيت منه بقية تحت الثوب قالت برزة بنت رافع : نظر الله لك يا أم المؤمنين والله لقد كان لنا في هذا المال حق قالت : فلكم ما تحت الثوب قالت : فوجدنا تحته خمسمائة وثمانين درهماً، ثم رفعت يديها إلى السماء وقالت : اللهم لا يدركني عطاء لعمر بعد عامي هذا فماتت، قال البقاعي : ذكر ذلك البلاذري في كتاب "فتوح البلاد" انتهى. وعن مقاتل قال : قالت أم سلمة بنت أبي أمية، ونسيبة بنت كعب الأنصارية للنبي ﷺ "ما بال ربنا يذكر الرجال ولا يذكر النساء في شيء من كتابه نخشى أن لا يكون فيهن خير" فأنزل الله تعالى :
﴿إن المسلمين والمسلمات﴾ أي : الداخلين في الإسلام المنقادين لحكم الله في القول والعمل.
ولما كان الإسلام مع كونه أكمل الأوصاف وأعلاها يمكن أن يكون بالظاهر فقط أتبعه المحقق له وهو إسلام الباطن بالتصديق التام بغاية الإذعان فقال عاطفاً له ولما بعده من الأوصاف التي يمكن اجتماعها بالواو للدلالة على تمكن الجامعين لهذه الأوصاف في كل وصف منها :﴿والمؤمنين والمؤمنات﴾ أي : المصدقين بما يجب أن يصدق به.