ثم بين تعالى منزلته من النبي ﷺ بقوله تعالى :﴿وأنعمت عليه﴾ أي : بالعتق والتبني حيث استشارك في فراق زوجته التي أخبرك الله تعالى أنه يفارقها وتصير زوجتك ﴿أمسك عليك زوجك﴾ أي : زينب رضي الله عنها ﴿واتق الله﴾ الذي له جميع العظمة في جميع أمرك ﴿وتخفي﴾ أي : والحال أنك تخفي أي : تقول قولاً مخفياً ﴿ما في نفسك﴾ أي : ما أخبرك الله من أنها ستصير إحدى زوجاتك عند طلاق زيد ﴿ما الله مبديه﴾ أي : مظهره بحمل زيد على تطليقها، وإن أمرته بإمساكها وتزويجك بها وأمرك بالدخول عليها، وهذا دليل على أنه ما أخفى غير ما أعلمه الله تعالى من أنها ستصير زوجته عند طلاق زيد ؛ لأن الله تعالى ما أبدى غير ذلك، ولو أخفى غيره لأبداه سبحانه ؛ لأنه لا يبدل قوله، وقول ابن عباس كان في قلبه حبها بعيد، وكذا قول قتادة : ودّ لو أنه لو طلقها زيد، وكذا قول غيرهما : كان في قلبه لو فارقها زيد تزوجها.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣١٤
ولما ذكر تعالى إخفاءه ذلك ذكر علته بقوله تعالى : عاطفاً على تخفي ﴿وتخشى الناس﴾ أي : من أن تخبر بما أخبر الله تعالى به فيصوبوا إليك مرجمات الظنون لاسيما اليهود والمنافقون، وقال ابن عباس والحسن : تستحييهم، وقيل : تخاف لأئمة الناس أن يقولوا : أمر رجلاً بطلاق امرأته ثم نكحها ﴿والله﴾ أي : والحال أن الذي لا شيء أعظم منه ﴿أحق أن تخشاه﴾ أي : وحده ولا تجمع خشية الناس مع خشيته في أن تؤخر شيئاً أخبرك به حتى يأتيك فيه أمر. قال عمر وابن مسعود وعائشة : ما نزلت على رسول الله ﷺ آية هي أشد عليه من هذه، وروي عن مسروق قال : قالت عائشة :"لو كتم النبي ﷺ شيئاً مما أوحي إليه لكتم هذه الآية ﴿وتخفي في نفسك ما الله مبديه﴾.
ويؤيد ما مر ما روى سفيان بن عيينة عن علي عن زيد بن جدعان قال : سألني علي بن الحسين زين العابدين ما يقول الحسن في قوله تعالى :﴿وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه﴾ قال : قلت يقول لما جاء زيد إلى النبي ﷺ قال : يا رسول الله إني أريد أن أطلقها فقال له :﴿أمسك عليه زوجك﴾ فقال علي بن الحسين : ليس كذلك ؛ لأن الله
٣١٥
تعالى قد أعلمه أنها ستكون من أزواجه، وأن زيداً سيطلقها، فلما جاء زيد وقال : إني أريد أن أطلقها قال له :﴿أمسك عليك زوجك﴾ فعاتبه الله تعالى وقال :"لم قلت أمسك عليك زوجك وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك" وهذا هو اللائق والأليق بحال الأنبياء عليهم السلام، وهو مطابق للتلاوة لأن الله تعالى أعلم أنه يبدي ويظهر ما أخفاه ولم يظهر غير تزويجها منه فقال تعالى :﴿فلما قضى زيد منها وطرأ﴾ أي : حاجة من زواجها والدخول بها، وذلك بانقضاء عدتها منه ؛ لأن به يعرف أنه لا حاجة له فيها، وأنه قد تقاصرت عنها همته وإلا راجعها ﴿زوجناكها﴾ أي : ولم نحوجك إلى ولي من الخلق يعقد لك عليها تشريفاً لك ولها بما لنا من العظمة التي خرقنا بها عوائد الخلق حتى أذعن لذلك كل من علم به، وسرت به جميع النفوس.
ولم يقدر منافق ولا غيره على الخوض في ذلك ببنت شفة مما يوهنه ويؤثر فيه، فلو كان الذي أضمره رسول الله ﷺ محبتها أو إرادة طلاقها لكان يظهر ذلك لأنه لا يجوز أن يخبر أنه يظهره ثم يكتمه فلا يظهره، فدل على أنه إنما عوتب على إخفاء ما أعلمه الله تعالى من أنها ستكون زوجة له.
وإنما أخفاه استحياء أن يقول لزيد : إن التي تحتك وفي نكاحك ستكون امرأتي.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣١٤
قال البغوي : وهذا هو الأولى والأليق وإن كان الآخر وهو أنه أخفى محبتها أو نكاحها لو طلقها لا يقدح في حال الأنبياء عليهم السلام ؛ لأن العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه من مثل هذه الأشياء ما لم يقصد فيه المأثم ؛ لأن الود وميل النفس من طبع البشر، وقوله :﴿أمسك عليك زوجك واتق الله﴾ أمر بالمعروف وهو خشية الإثم فيه وقوله :﴿والله أحق أن تخشاه﴾ لم يرد به أنه لم يكن يخشى الله فيما سبق فإنه عليه الصلاة والسلام قال :"أنا أخشاكم لله وأتقاكم له" ولكن المعنى : الله أحق أن تخشاه وحده ولا تخشى أحداً معه، فأنت تخشاه وتخشى الناس أيضاً. ولكنه لما ذكر الخشية من الناس ذكر أن الله أحق بالخشية في عموم الأحوال وفي جميع الأشياء انتهى.
وذكر قضاء الوطر ليعلم أن زوجة المتبني تحل بعد الدخول بها إذا طلقت وانقضت عدتها، روى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال :"لما انقضت عدة زينب قال رسول الله ﷺ لزيد : اذهب فاذكرها علي قال : فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمر عجينها قال : فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها لأن رسول الله ﷺ ذكرها، فوليتها ظهري ونكصت على عقبي فقلت : يا زينب أرسل رسول الله ﷺ يذكرك قالت : ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن.