﴿الذين﴾ نعت للذين قبله ﴿يبلغون﴾ أي : إلى أممهم ﴿رسالات الله﴾ أي : الملك الأعظم، سواء كانت في نكاح أم غيره ﴿ويخشونه﴾ أي : فيخبرون بكل ما أخبرهم به ﴿ولا يخشون أحداً﴾ قل أو جلَّ ﴿إلا الله﴾ فلا يخشون قالة الناس فيما أحل الله لهم ﴿وكفى بالله﴾ أي : المحيط بجميع صفات الكمال ﴿حسيباً﴾ أي : حافظاً لأعمال خلقه ومحاسبهم.
ولما أفاد هذا كله أن الدعي ليس ابناً وكانوا قد قالوا : لما تزوج زينب كما رواه الترمذي عن عائشة تزوج حليلة ابنه قال تعالى :
﴿ما كان﴾ أي : بوجه من الوجوه ﴿محمد﴾ أي : على كثرة نسائه وأولاده ﴿أبا أحد من رجالكم﴾ لا مجازاً بالتبني ولا حقيقة بالولادة، فثبت بذلك أنه يحرم عليه زوجة الابن، ولم يقل تعالى من بنيكم ؛ لأنه لم يكن له في ذلك الوقت سنة خمس، وما داناها ابن ذكر لعلمه تعالى أنه سيولد له ابنه إبراهيم عليه السلام مع ما كان له قبله من البنين الطاهر والطيب والقاسم، وأنه لم يبلغ أحد منهم الحلم عليهم السلام. قال البيضاوي : ولو بلغوا لكانوا رجاله لا رجالهم. انتهى. وهذا إنما يأتي على أن المراد التبني. وقال البغوي : والصحيح أنه أراد بأحد من رجالكم : الذين لم يلدهم. انتهى. ومع هذا الأول أوجه كما جرى عليه البقاعي.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣١٤
ثم لما نفى تعالى أبوته عنهم قال :﴿ولكن﴾ كان في علم الله غيباً وشهادة ﴿رسول الله﴾ أي : الملك الأعظم الذي كل من سواه عبده ﴿وخاتم النبيين﴾ أي : آخرهم الذي ختمهم لأن رسالته عامة ومعها إعجاز القرآن فلا حاجة مع ذلك إلى استنباء ولا إرسال، وذلك مفض لئلا يبلغ له ولد إذ لو بلغ له ولد، لاق بمنصبه أن يكون نبياً إكراماً له ؛ لأنه أعلى النبيين رتبة وأعظمهم شرفاً، وليس لأحد من الأنبياء كرامة إلا وله مثلها وأعظم منها، ولو صار أحد من ولده رجلاً لكان نبياً بعد ظهور نبوته، وقد قضى الله تعالى أن لا يكون بعده نبي إكراماً له.
روى أحمد وابن ماجة عن أنس وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال في ابنه إبراهيم عليه السلام : لو عاش لكان صديقاً نبياً وللبخاري نحوه عن البراء بن عازب. وللبخاري من حديث ابن أبي أوفى :"لو قضي أن يكون بعد محمد ﷺ نبي لعاش ابنه ولكن لا نبي بعده" وقال
٣١٨
ابن عباس رضي الله عنه : يريد لو لم أختم به النبيين لجعلت له ابناً يكون من بعده نبياً.
وروى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنه : لما حكم أنه لا نبي بعده لم يعطه ولداً ذكراً يصير رجلاً. وقيل : من لا نبي بعده يكون أشفق على أمته وأهدى لهم، إذ هو كالوالد لولد ليس له غيره، والحاصل أنه لا يأتي بعده نبي مطلقاً بشرع جديد ولا يتجدد بعده مطلقاً استنباء، وهذه الآية مثبتة لكونه خاتماً على أبلغ وجه وأعظمه، وذلك أنها في سياق الإنكار بأن يكون بينه وبين أحد من رجالهم بنوة حقيقية أو مجازية، ولو كانت بعده لأحد لم يكن ذلك إلا لولده، ولأن فائدة إثبات النبي تتميم شيء لم يأت به من قبله. وقد حصل به ﷺ التمام، فلم يبق بعد ذلك مرام :"بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" وأما تجديد ما وهي مما أحدث بعض الفسقة فالعلماء كافون فيه لوجود ما خص به ﷺ من هذا القرآن المعجز الذي من سمعه فكأنما سمعه من الله عز وجل ؛ لوقوع التحقق والقطع بأنه لا يقدر غيره أن يقول شيئاً منه، فمهما حصل ذهول عن ذلك قرره من يريد الله تعالى من العلماء فيعود الاستبصار، كما روي في بعض الآثار :"علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" وأما إتيان عيسى عليه السلام بعد تجديد الهدى لجميع ما وهي من أركان المكارم فلأجل فتنة الدجال ثم طامة يأجوج ومأجوج ونحو ذلك مما لا يستقل بأعبائه غير نبي، وما أحسن قول حسان بن ثابت في مرثية لإبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣١٤
مضى ابنك محمود العواقب لم يشب ** بعيب ولم يذمم بقول ولا فعل*
*رأى أنه إن عاش ساواك في العلا ** فآثر أن تبقى وحيداً بلا مثل*
وقال الغزالي في آخر كتابه الاقتصاد : إن الأمة فهمت من هذا اللفظ ومن قرائن أحواله ﷺ أنه أفهم عدم نبي بعده أبداً، وعدم رسول بعده أبداً، وأنه ليس فيه تأويل ولا تخصيص. وقال : إن من أوله بتخصيص النبيين بأولي العزم من الرسل ونحو هذا فكلامه من أنواع الهذيان لا يمنع الحكم بتكفيره ؛ لأنه مكذب لهذا النص الذي أجمعت الأمة على أنه غير مؤول ولا مخصوص انتهى.


الصفحة التالية
Icon