وقد بان بهذا أن إتيان عيسى عليه السلام غير قادح في هذا النص، فإنه من أمته ﷺ المقررين لشريعته، وهو قد كان نبياً قبله لم يستجد له شيء لم يكن، فلم يكن ذلك قادحاً في الختم. وهو مثبت لشرف نبينا ﷺ إذ لولاه لما وجد، وذلك أنه لم يكن لنبي من الأنبياء شرف إلا وله ﷺ مثله أو أعلى منه، وقد كانت الأنبياء تأتي مقررة لشريعة موسى عليه السلام مجددة لها، فكان المقرر لشريعة نبينا ﷺ المتبع لملته من كان ناسخاً لشريعة موسى ﷺ وقرأ عاصم بفتح التاء والباقون بكسرها، فالفتح : اسم للآلة التي يختم بها كالطابع والقالب لما يطبع به ويقلب فيه، والكسر على أنه اسم فاعل. وقال بعضهم : هو بمعنى المفتوح يعني بمعنى آخرهم لأنه ختم النبيين فهو خاتمهم ﴿وكان
٣١٩
الله﴾
أي : الذي له كل صفة كمال أزلاً وأبداً ﴿بكل شيء﴾ من ذلك وغيره ﴿عليماً﴾ فيعلم من يليق بالختم ومن يليق بالبدء.
قال الأستاذ ولي الدين الملوي في كتابه حصن النفوس : في سؤال القبر واختصاصه ﷺ بالأحمدية والمحمدية علماً وصفه برهان على ختمه، إذ الحمد مقرون بانقضاء الأمور مشروع عنده ﴿وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين﴾ وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال :"مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أحكم بنيانه، ترك منه موضع لبنة فطاف به النظار يتعجبون من حسن بنائه إلا موضع تلك اللبنة لا يعيبون بسواها، فكنت أنا موضع تلك اللبنة ختم بي البنيان وختم بي الرسل" وقال عليه الصلاة والسلام :"إن لي أسماء أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي يمحو الله تعالى بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الله تعالى الناس على قدمي، وأنا العاقب" والعاقب الذي ليس بعده نبي.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣١٤
ولما كان ما أثبته لنفسه سبحانه وتعالى من إحاطة العلم مستلزماً للإحاطة بأوصاف الكمال قال تعالى :
﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي : ادعوا ذلك بألسنتهم ﴿اذكروا الله﴾ الذي هو أعظم من كل شيء تصديقاً لدعواكم ذلك ﴿ذكراً كثيراً﴾ قال ابن عباس : لم يفرض الله تعالى على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر، فإنه لم يجعل له حداً ينتهي إليه، ولم يعذر أهله في تركه إلا مغلوباً على عقله. وأمرهم به في الأحوال فقال تعالى :﴿فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم﴾ (النساء : ١٠٣)
وقال تعالى :﴿اذكروا الله ذكراً كثيراً﴾ أي : بالليل والنهار والبر والبحر والصحة والسقم في السر والعلانية، وقال مجاهد : الذكر الكثير : أن لا ينساه أبداً، فيعم ذلك سائر الأوقات وسائر ما هو أهله من التقديس والتهليل والتمجيد.
﴿وسبحوه بكرة وأصيلا﴾ أي : أول النهار وآخره خصوصاً، وتخصيصهما بالذكر للدلالة على فضلهما على سائر الأوقات ؛ لكونهما مشهودين. كإفراد التسبيح من جملة الإذكار لأنه العمدة فيها، وقال البغوي : وسبحوه أي : صلوا له بكرة أي : صلاة الصبح، وأصيلا يعني صلاة العصر. وقال الكلبي : وأصيلا يعني صلاة الظهر والعصر والعشاءين وقال مجاهد : معناه قولوا سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فعبر بالتسبيح عن إخوانه، وقيل : المراد من قوله تعالى :﴿ذكراً كثيراً﴾ هذه الكلمات يقولها الطاهر والجنب والمحدث.
وعن أنس لما نزل قوله تعالى :﴿إن الله وملائكته يصلون على النبي﴾ (الأحزاب : ٥٦)
وقال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله ما أنزل الله تعالى عليك خيراً إلا أشركنا فيه أنزل الله تعالى :
﴿هو الذي يصلي عليكم﴾ أي : يرحمكم ﴿وملائكته﴾ أي : يستغفرون لكم، فالصلاة من الله تعالى رحمة، ومن الملائكة استغفار للمؤمنين، فذكر صلاته تحريضاً للمؤمنين على الذكر والتسبيح. قال السدي : قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام : أيصلي ربنا ؟
فكبر هذا الكلام على موسى، فأوحى الله
٣٢٠
تعالى إليه قل لهم : إني أصلي، وإن صلاتي رحمتي وقد وسعت رحمتي كل شيء، وقيل : الصلاة من الله : هي إشاعة الذكر الجميل له في عباده. وقيل : الثناء عليه. واستغفار الملائكة ودعاؤهم للمؤمنين ترحم عليهم، وهو سبب للرحمة من حيث أنهم مجابو الدعوة، فقد اشتركت الصلاتان، واللفظ المشترك يجوز استعماله في معنييه معاً، وكذلك الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ جائز. قال الرازي : وينسب هذا القول للشافعي رحمه الله تعالى وهو غير بعيد، وذلك لأن الرحمة والاستغفار مشتركان في العناية بحال المرحوم والمستغفر له، والمراد : هو القدر المشترك فتكون الدلالة تضمنية.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣١٤


الصفحة التالية
Icon