ولما بدأ الله تعالى بتأديب النبي ﷺ بذكر ما يتعلق بجانب الله تعالى بقوله تعالى :﴿يا أيها النبي اتق الله﴾ وثنى بما يتعلق بجانب من هو تحت يده من أزواجه الشريفات بقوله تعالى : بعده :﴿يا أيها النبي قل لأزواجك﴾ وثلث بما يتعلق بذكر العامة بقوله تعالى :﴿يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً﴾ وكان تعالى كلما ذكر لنبيه مكرمة وعلمه أدباً ذكر للمؤمنين ما يناسبه، فلذلك بدأ في إرشاد المؤمنين بجانب الله تعالى فقال :﴿يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً﴾ ثم ثنى بما يتعلق بجانب من تحت أيديهم بقوله تعالى :
﴿يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات﴾ أي : عقدتم على الموصوفات بهذا الوصف الشريف المقتضى لغاية الرغبة فيهن، وأتم الوصلة بينكم وبينهن ثم كما ثلث في تأديب النبي ﷺ بجانب الأمة ثلث في حق المؤمنين بما يتعلق بهم فقال بعد هذا :﴿يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي﴾ (الأحزاب : ٥٣)
﴿يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً﴾ (الأحزاب : ٥٦)
فإن قيل : إذا كان هذا إرشاداً بما يتعلق بجانب منه ومن خواص المرأة فلم خص المطلقات اللاتي طلقن قبل المسيس بقوله تعالى :﴿ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن﴾ أي : تجامعوهن، أطلق المس على الجماع ؛ لأنه طريق له كما سمى الخمر إثماً ؛ لأنها سببه ؟
أجيب : بأن هذا إرشاد إلى أعلى درجات المكرمات ليعلم منها ما دونها.
وبيانه : أن المرأة إذا طلقت قبل المسيس لم يحصل بينهما تأكيد العهد، ولهذا قال تعالى في حق الممسوسة :﴿وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً﴾ (النساء : ٢١)
فإذا أمر الله تعالى بالتمتع والإحسان مع من لا مودة بينه وبينها فما ظنك بما حصلت المودة بالنسبة إليها بالإفضاء، أو حصل تأكدها بحصول الولد بينهما، وهذا كقوله تعالى :﴿فلا تقل لهما أف﴾ (الإسراء : ٢٣)
ولو قال : لا تضر بهما ولا تشتمهما ظن أنه حرام لمعنى يختص بالضرب أو الشتم لهما، فأما إذا قال :﴿لا تقل لهما أف﴾ لعلم منه معان كثيرة فكذلك ههنا أمر بالإحسان مع من لا مودة معها، فعلم منه الإحسان إلى الممسوسة، ومن لم تطلق بعد، ومن ولدت عنده منه، وقرأ حمزة والكسائي بضم التاء وألف بعد الميم، والباقون بفتح التاء ولا ألف بعد الميم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٢١
ولما كانت العدة حقاً للرجال وإن كانت لا تسقط بإسقاطهم لما فيها من حق الله تعالى قال تعالى :﴿فما لكم عليهن من عدة﴾ أي : أياماً يتربصن فيها بأنفسهن ﴿تعتدونها﴾ أي : تحصونها وتستوفونها بالإقراء وغيرها، فتعتدونها صفة لعدة، وتعتدونها إما من العدد، وإما من الاعتداد، أو تحسبونها أو تستوفون عددها من قولك : عد الدراهم فاعتدها أي : استوفى عددها نحو : كلته فاكتال ووزنته فاتزن، فإن قيل : ما الفائدة في الاتيان بثم وحكم من طلقت على الفور بعد العقد كذلك ؟
أجيب : بأن ذلك إزاحة لما قد يتوهم أن تراخي الطلاق ريثما تمكن الإصابة كما يؤثر في النسب فيؤثر في العدة، وظاهره يقتضي عدم وجود العدة بمجرد الخلوة، وتخصيص المؤمنات والحكم عام للتنبيه على أن شأن المؤمن أن لا ينكح إلا مؤمنة تخيراً لنطفة المؤمن، وفي هذه الآية دليل على أن تعليق الطلاق قبل النكاح لا يصح ؛ لأن الله تعالى رتب الطلاق بكلمة ثم وهي
٣٢٣
للتراخي حتى لو قال لأجنبية : إذا نكحتك فأنت طالق، أو كل امرأة أتزوجها فهي طالق فنكح لا يقع الطلاق. وهو قول علي وابن مسعود وجابر ومعاذ وعائشة رضي الله تعالى عنهم، وبه قال أهل العلم : منهم الشافعي وأحمد رضي الله تعالى عنهما. وروي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال : يقع الطلاق، وهو قول إبراهيم النخعي وأصحاب الرأي : وقال ربيعة ومالك والأوزاعي : إن عيّن امرأة يقع وإن عمم فلا يقع.
وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : كذبوا على ابن مسعود رضي الله عنه، إن كان قالها فزلة من عالم في الرجل يقول : إن تزوجت فلانة فهي طالق، يقول الله تعالى :﴿إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن﴾ ولم يقل إذا طلقتموهن ثم نكحتموهن. وروى عطاء عن جابر : لا طلاق قبل النكاح وقوله تعالى :﴿فمتعوهن﴾ أي : أعطوهن ما يستمتعن به محله كما قال ابن عباس رضي الله عنه : إذا لم يكن سمى لها صداقاً وإلا فلها نصف الصداق ولا متعة لها، وقال قتادة : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى :﴿فنصف ما فرضتم﴾ (البقرة : ٢٣٧)
أي : فلا متعة لها مع وجوب نصف الفرض.


الصفحة التالية
Icon