﴿وعباد الرحمن﴾ فأضافهم إليه رفعة لهم وإن كان الخلق كلهم عباده وأضافهم إلى وصف الرحمة الأبلغ الذي أنكره أولئك تبشيراً لهم، ثم وصفهم بضد ما وصف به المتكبرين عن السجود إشارة إلى أنهم تخلقوا من هذه الصفة التي أضيفوا إليها بصفات كثيرة ؛ الصفة الأولى : قوله تعالى :﴿الذين يمشون﴾ وقال تعالى :﴿على الأرض﴾ تذكيراً بما يصيرون إليه وحثاً على السعي في معالي الأخلاق ﴿هوناً﴾ أي : هينين أو مشياً هيناً مصدر وصف به مبالغة والهون الرفق واللين، ومنه الحديث :"أحبب حبيبك هوناً ما"، وقوله : المؤمنون هينون، والمثل : إذا عز أخوك فهن، والمعنى إذا عاسر فياسر، والمعنى أنهم يمشون بسكينة وتواضع ووقار لا يضربون لوقارهم بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشراً وبطراً ولذلك كره بعض العلماء الركوب في الأسواق لقوله تعالى :﴿ويمشون في الأسواق﴾ (الفرقان، ٣٠)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٨
تنبيه : عباد مرفوع بالإبتداء وفي خبره وجهان ؛ أحدها : الجملة الأخيرة في آخر السورة أولئك يجزون وبه بدأ الزمخشري والذين يمشون وما بعده صفات للمبتدأ، والثاني : أن الخبر الذين يمشون. الصفة الثانية ﴿وإذا خاطبهم الجاهلون﴾ أي : بما يكرهون ﴿قالوا سلاماً﴾ أي : تسلماً منكم لا نجاهلكم ومتاركة لا خير بيننا ولا شر أي : فنسلم منكم تسلماً فأقيم السلام مقام التسلم وقيل : قالوا : سداداً من القول أي : يسلمون فيه من الإثم والإيذاء وليس المراد التحية ؛ لأن المؤمنين لم يؤمروا بالسلام على المشركين، وعن أبي العالية : نسختها آية القتال ولا حاجة إلى ادعاء النسخ بآية القتال ولا غيرها ؛ لأن الإغضاء عن السفهاء وترك المقابلة مستحسن في الأدب والمروءة والشريعة أسلم للعرض والورع، وأطلق الخطاب إعلاماً بأن أكثر خصال الجاهل وهو الذي يخالف العلم والحكمة الجهل وهو السفه وقلة الأدب من قوله :
*ألا لا يجهلن أحد علينا
** فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ولما ذكر تعالى ما بينهم وبين الخلق ذكر ما بينهم وبينه وهي الصفة الثالثة بقوله تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٨
٣٢
﴿والذين يبيتون﴾ من البيتوتة قال الزجاج : كل من أدركه الليل قيل : بات وإن لم ينم كما يقال : بات فلان قلقاً والمعنى يبيتون ﴿لربهم﴾ أي : المحسن إليهم ﴿سجداً﴾ على وجوههم في الصلاة وقدّمه لأنه أنهى الخضوع، وأخر عنه قوله تعالى :﴿وقياماً﴾ أي : على أقدامهم وإن كان تطويل القيام أفضل للروي، وتخصيص البيتوتة ؛ لأن العبادة في الليل أشق وأبعد من الرياء، قال الزمخشري : والظاهر أنه وصف لهم بإحياء الليل أو أكثره، وقيل : من قرأ شيئاً من القرآن في صلاة وإن قل فقد بات ساجداً وقائماً، وقال ابن عباس : من صلى بعد العشاء ركعتين فقد بات ساجداً وقائماً، وقيل : هما لركعتان بعد المغرب والركعتان بعد العشاء، وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ "من صلى عشاء الآخرة في جماعة كان كقيام نصف ليلة، ومن صلى الصبح في جماعة كان كقيام ليلة"، ولما ذكر تعالى تهذيبهم للخلق والخالق وصفهم الله تعالى أنهم مع ذلك خائفون وجلون وهي الصفة الرابعة بقوله تعالى :
﴿والذين يقولون ربنا﴾ أي : المحسن إلينا ﴿اصرف عنا عذاب جهنم﴾ قال ابن عباس : يقولون في سجودهم وقيامهم هذا القول، ثم علل سؤالهم بقوله تعالى :﴿إن عذابها كان﴾ أي : كوناً جبلت عليه ﴿غراماً﴾ أي : هلاكاً وخسراناً ملحاً لازماً لا ينفك عنه كما قال :
*إن يعاقب يكن غراماً وإن يع
** ط جزيلاً فإنه لا يبالي
ومنه الغريم لملازمته وإلحاحه فهم يبتهلون إلى الله تعالى في صرف العذاب عنهم لعدم اعتدادهم بأعمالهم ووثوقهم على استمرار أحوالهم، ولما ثبت لهم هذا الوصف أنتج قوله تعالى.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٢
إنها ساءت﴾ أي : تناهت هي في كل ما يحصل منه سوء وهي في معنى بئست في جميع المذام ﴿مستقراً﴾ أي : موضع استقرار ﴿ومقاماً﴾ أي : موضع إقامة.
تنبيه : ساءت في حكم بئست كما مر ففيها ضمير مبهم يفسره مستقراً، والمخصوص بالذم محذوف معناه ساءت مستقراً ومقاماً هي وهذا الضمير هو الذي ربط الجملة باسم إن وجعلها خبراً لها، ويجوز أن تكون ساءت بمعنى أحزنت ففيها ضمير اسم إن ومستقراً حال أو تمييز والتعليلان
٣٣
يصح أن يكونا متداخلين أو مترادفين وأن يكونا من كلام الله تعالى وحكاية لقولهم، ولما ذكر تعالى أفعالهم وأقوالهم أتبع ذلك بذكر إنفاقهم وهو الصفة الخامسة بقوله تعالى :
﴿والذين إذا أنفقوا﴾ أي : للخلق أو الخالق في واجب أو مستحب أو مباح ﴿لم يسرفوا﴾ أي : لم يجاوزوا الحد في النفقة بالتبذير فيضيعوا الأموال في غير حقها ﴿ولم يقتروا﴾ أي : لم يضيقوا فيضيعوا الحقوق ﴿وكان﴾ أي : إنفاقهم بين ذلك أي : الإسراف والإقتار ﴿قواماً﴾ أي : وسطاً.