تنبيه : اسم كان ضمير يعود على الإنفاق المفهوم من قوله تعالى : أنفقوا وخبرها قواماً، وبين ذلك معمول له، وقيل : غير ذلك وذكر المفسرون في الإسراف والتقتير وجوهاً ؛ أحدها : قال الرازي وهو الأقوى وصفهم بالقصد الذي هو بين الغلو والتقتير، وبمثله أمر ﷺ بقوله تعالى :﴿ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط﴾ (الإسراء، ٢٩)
إذ يقال : ما عال من اقتصد، وسأل رجل بعض العلماء ما البناء الذي لا سرف فيه قال : ما سترك من الشمس وأكنك من المطر، قال : فما الطعام الذي لا سرف فيه ؟
قال : ما سد الجوعة، قال : فما اللباس الذي لا سرف فيه ؟
قال : ما ستر عورتك وأدفأك من البرد، ثانيها : وهو قول ابن عباس : الإسراف النفقة في معصية الله تعالى، والإقتار منع حق الله تعالى، وقال مجاهد : لو أنفق أحد مثل جبل أبي قبيس ذهباً في طاعة الله تعالى لم يكن سرفاً، ولو أنفق صاعاً في معصية الله تعالى كان سرفاً، وقال الحسن : لم ينفقوا في معاصي الله ولم يمسكوا عما ينبغي وأنشدوا :
*ذهاب المال في حمد وخير
** ذهاب لا يقال له ذهاب
وسمع رجل رجلاً يقول : لا خير في الإسراف، فقال : لا إسراف في الخير، وعن عمر بن عبد العزيز أنه شكر عبد الملك بن مروان حين زوجه ابنته وأحسن إليه فقال : وصلت الرحم وفعلت وصنعت وجاء بكلام كثير حسن فقال ابن لعبد الملك إنما هو كلام أعده لهذا المقام، فسكت عبد الملك، فلما كان بعد أيام دخل عليه والابن حاضر فسأله عن نفقته وأحواله، فقال : النفقة بين الشيئين، فعرف عبد الملك أنه أراد ما في هذه الآية فقال لابنه : يا بني هذا أيضاً مما أعده، وثالثها السرف مجاوزة الحد في التنعم والتوسع في الدنيا وإن كان من حلال ؛ لأنه يؤدي إلى الخيلاء وكسر قلوب الفقراء، فكانت الصحابة لا يأكلون طعاماً للتنعم واللذة ولا يلبسون ثوباً للجمال والزينة ولكن كانوا يأكلون ما يسد جوعتهم ويعينهم على عبادة ربهم ويلبسون ما يستر عوراتهم ويقيهم من الحر والبرد، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : كفى سرفاً أن لا يشتهي الرجل شيئاً إلا اشتراه فأكله، وقرأ نافع وابن عامر يقتروا بضم التحتية وكسر الفوقية من أقتر، وابن كثير وأبو عمر بفتح التحتية وكسر الفوقية والكوفيون بفتح التحتية وضم الفوقية، ولما ذكر تعالى ما تحلوا به من أصول الطاعات أتبعه بذكر ما تخلوا عنه من أمهات المعاصي التي هي الفحشاء والمنكر وهو الصفة السادسة بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٢
والذين لا يدعون﴾ أي : رحمة لأنفسهم واستعمالاً للعدل ﴿مع الله﴾ أي : الذي اختص بصفات الكمال ﴿إلهاً آخر﴾ أي : دعاءً جلياً بالعبادة ولا خفياً بالرياء، ولما نفى عنهم ما يوجب قتل أنفسهم بخسارتهم إياها أتبعه نفي قتل غيرهم بقوله سبحانه :﴿ولا يقتلون النفس﴾ رحمة للخلق وطاعة للخالق ولما كان من الأنفس ما لا
٣٤
حرمة له بين المراد بقوله تعالى :﴿التي حرم الله﴾ أي : منع من قتلها ﴿إلا بالحق﴾ أي : بأن تعمل بما يبيح قتلها، ولما ذكر القتل الجلي أتبعه الخفي بتضييع نسب الولد بقوله تعالى :﴿ولا يزنون﴾ أي : رحمة للمزني بها ولأقاربها أن تنهتك حرماتهم مع رحمته لنفسه على أن الزنا أيضاً جار إلى القتل والفتن وفيه التسبب إلى إيجاد نفس بالباطل كما أن القتل سبب إلى إعدامها بذلك، وقد روي في الصحيح عن عبد الله بن مسعود أنه سأل النبي ﷺ أي الذنب أعظم وفي رواية أكبر عند الله ؟
قال :"أن تدعو لله نداً وهو خلقك قال : ثم أي ؟
قال : أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قال : ثم أي ؟
قال : أن تزاني حليلة جارك" فأنزل الله تصديق ذلك، ﴿والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر﴾ الآية.
وقد استشكل تصديق هذه الآية للخبر من حيث أن الذي فيه قتل خاص وزنا خاص، والتقييد بكونه أكبر والذي فيها مطلق القتل والزنا من غير تعرض لعظم ؟
وأجيب : بدفع الإشكال بأنها نطقت بتعظيم ذلك من سبعة أوجه ؛ الأول : الاعتراض من بين المبتدأ الذي هو وعباد الرحمن وما عطف عليه والخبر الذي هو أولئك يجزون الغرفة على إحدى الروايتين بذكر هذه الثلاثة خاصة وذلك دال على مزيد الاهتمام الدال على الإعظام، الثاني : الإشارة بأداة البعد في قوله تعالى :﴿ومن يفعل ذلك﴾ أي : هذا الفعل العظيم القبيح مع قرب المذكورات فدل على أن البعد من رتبتها فهو إشارة إلى جميع ما تقدم ؛ لأنه بمعنى ما ذكر، فلذلك وحده وأدغم لام يفعل في الذال أبو الحارث والباقون بالإظهار، الثالث : التعبير باللقي مع المصدر المزيد الدال على زيادة المعنى في قوله :﴿يلق أثاماً﴾ دون يأثم ويلق إثماً أي : جزاء إثمه، الرابع : التقييد بالمضاعفة في قوله تعالى مستأنفاً :