وقد عرض لي إشكال على ما قاله الفقهاء بهذه الآية وذلك أن الشرط الثاني ههنا لا يمكن تقدمه في الوجود بالنسبة إلى الحكم بالنبي ﷺ لا أنه لا يمكن عقلاً، وذلك أن المفسرين فسروا قوله تعالى :﴿إن أراد﴾ بمعنى قبل الهبة لأن بالقبول منه ﷺ يتم نكاحه وهذا لا يتصور تقدمه على الهبة ؛ إذ القبول متأخر، فإن العصمة كانت في تأخر إرادته عن هبتها، ولما جاء أبو حيان إلى هنا جعل الشرط الثاني مقدماً على الأول على القاعدة العامة، ولم يستشكل شيئاً مما ذكر. قال ذلك البعض. وقد عرضت هذا الإشكال على جماعة من أعيان زماننا فاعترفوا به ولم يظهر عنه جواب إلا ما قدمته من أنه ثم قرينة مانعة من ذلك كما مثلته آنفاً.
٣٢٥
ولما كان ربما فهم أن غير النبي ﷺ يشاركه في هذا المعنى قال الله منبهاً للخصوصية :﴿خالصة لك﴾ وزاد المعنى بياناً بقوله تعالى :﴿من دون المؤمنين﴾ أي : من الأنبياء وغيرهم.
تنبيهات : الأول في إعراب خالصة وفيه أوجه : أحدها : أنه منصوب على الحال من فاعل وهبت أي : حالة كونها خالصة لك دون غيرك. ثانيها : أنه نعت مصدرٍ مقدّر أي : هبة خالصة فنصبه بوهبت. ثالثها : أنه حال من امرأة ؛ لأنها وصفت فتخصصت، وهو بمعنى الأول، وإليه ذهب الزجاج، وقيل غير ذلك. والمعنى : أنا أحللنا لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها لك بغير صداق.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٢١
التنبيه الثاني : في انعقاد النكاح بلفظ الهبة في حق الأمة وفيه خلاف : فقال سعيد بن المسيب والزهري ومجاهد وعطاء : لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج، وبه قال مالك وربيعة والشافعي. ومعنى الآية : أن إباحة الوطء بالهبة وحصول التزويج بلفظها من خواصه ﷺ وقال النخعي وأبو حنيفة وأهل الكوفة : ينعقد بلفظ الهبة والتمليك. وأن معنى الآية : أن تلك المرأة صارت خالصة لك زوجة من أمهات المؤمنين لا تحل لغيرك أبداً بالتزويج، وأجيب : بأن هذا التخصيص بالواهبة لا فائدة فيه، فإن أزواجه ﷺ كلهن خالصات له، وما مر فللتخصيص فائدة.
التنبيه الثالث : في التي وهبت نفسها للنبي ﷺ هل كانت عنده امرأة منهن ؟
فقال عبد الله بن عباس ومجاهد : لم يكن عند النبي ﷺ امرأة وهبت نفسها منه، ولم يكن عنده امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين وقوله تعالى ﴿وهبت نفسها﴾ على طريق الشرط والجزاء، وقال غيرهما : بل كانت موهوبة وهو ظاهر الآية، واختلفوا فيها : فقال الشعبي : هي زينب بنت خزيمة الهلالية يقال لها : أم لمساكين، وقال قتادة : هي ميمونة بنت الحارث، وقال علي بن الحسين والضحاك ومقاتل : هي أم شريك بنت جابر من بني أسد، وقال عروة بن الزبير : هي خولة بنت حكيم من بني سليم.
التنبيه الرابع : في ذكر شيء من خصائصه ﷺ وقد ذكرت منها أشياء كثيرة ينشرح الصدر بها في شرح التنبيه فلا أطيل بذكرها هنا، ولكن أذكر منها طرفاً يسيراً تبركاً ببركة صاحبها عليه أفضل الصلاة والسلام، فإن ذكرها مستحب. قال النووي في روضته : ولا يبعد القول بوجوبها لئلا يرى الجاهل بعض الخصائص في الخبر الصحيح فيعمل به أخذاً بأصل التأسي، فوجب بيانها لتعرف وهي أربعة أنواع :
أحدها الواجبات وهي أشياء كثيرة : منها الضحى، والوتر، والأضحية، وفي الحديث ما يدل على أن الواجب أقل الضحى، وقياسه أن الوتر كذلك. ومنها السواك لكل صلاة، والمشاورة لذوي الأحلام في الأمر، وتخيير نسائه بين مفارقته طلباً للدنيا واختياره طلباً للآخرة، ولا يشترط الجواب له منهن فوراً، فلو اختارته واحدة لم يحرم عليه طلاقها أو كرهته توقفت الفرقة على الطلاق، وليس قولها : اخترت نفسي بطلاق كما مرت الإشارة إليه، وله تزوجها بعد الفراق.
النوع الثاني : المحرمات : وهي أشياء كثيرة منها الزكاة والصدقة وتعلم الخط والشعر ومد العين إلى متاع الدنيا. وخائنة الأعين وهي : الإيماء بما يظهر خلافه دون الخديعة في الحرب، وإمساك من كرهت نكاحه. ومنها نكاح كتابية لا للتسري بها كما مر، ولا يحرم عليه أكل الثوم ونحوه ولا الأكل متكئاً.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٢١
النوع الثالث : التخفيفات والمباحات : وهي كثيرة جداً منها : تزويج من شاء من النساء لمن شاء ولو لنفسه بغير إذن من المرأة ووليها متولياً للطرفين، وزوجه الله تعالى، وأبيح له الوصال
٣٢٦
ونصفي المغنم. ويحكم ويشهد لولده ولو لنفسه، وأبيح له نكاح تسع، وقد تزوج ﷺ بضع عشرة ومات عن تسع، قال الأئمة : وكثرة الزوجات في حقه ﷺ للتوسعة في تبليغ الأحكام عنه الواقعة سراً مما لا يطلع عليه الرجال، ونقل محاسنه الباطنة فإنه ﷺ تكمل له الظاهر والباطن، وحرم عليه الزيادة عليهن، ثم نسخ وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى.


الصفحة التالية
Icon