وقلت : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله تعالى آية الحجاب، قال : وبلغني ما آذين رسول الله ﷺ نساؤه قال : فدخلت عليهن فجعلت أستقررهن واحدة واحدة فقلت والله لتنتهن أو ليبدله الله تعالى أزواجاً خيراً منكن، حتى أتيت على زينب فقالت : يا عمر أما كان في رسول الله ﷺ ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت قال : فخرجت فأنزل الله تعالى ﴿عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن﴾ (التحريم : ٥)
الآية.
ولما بين تعالى للمؤمنين الأدب أكده بما يحملهم على ملاطفة نبيه ﷺ بقوله تعالى :﴿وما كان﴾ أي : وما صح وما استقام ﴿لكم﴾ في حال من الأحوال ﴿أن تؤذوا رسول الله﴾ فله إليكم من الإحسان ما يستوجب به منكم غاية الإكرام والإجلال فضلاً عن الكف عن الأذى فلا تؤذوه بالدخول إلى شيء من بيوته بغير إذنه أو المكث بعد فراغ الحاجة ولا بغير ذلك.
ولما كان قد قصر ﷺ عليهن أحل له غيرهن وقصرهن الله عليه بقوله تعالى :﴿ولا أن تنكحوا﴾ أي : فيما يستقبل من الزمان ﴿أزواجه من بعده﴾ أي : فراقه بموت أو طلاق سواء أدخل بها أم لا ﴿أبداً﴾ زيادة لشرفه وإظهاراً لمزيته، ولأنهن أمهات المؤمنين ولأنهن أزواجه في الجنة، ولأن المرأة في الجنة مع آخر أزواجها كما قاله ابن القشيري، روي أن هذه الآية نزلت في رجل من أصحاب النبي ﷺ قال : لئن قبض رسول الله ﷺ لأنكحن عائشة قال مقاتل بن سليمان : هو طلحة بن عبيد الله فأخبر الله تعالى أن ذلك محرم، وقال :﴿إن ذلكم﴾ أي : الإيذاء بالنكاح وغيره ﴿كان عند الله﴾ أي : القادر على كل شيء ﴿عظيماً﴾ أي : ذنباً عظيماً.
فإن قيل : روى معمر عن الزهري أن العالية بنت ظبيان التي طلقها النبي ﷺ تزوجت رجلاً وولدت له. أجيب : بأن ذلك كان قبل تحريم أزواج النبي ﷺ على الناس وقيل : لا تحرم غير الموطوءة لما روي أن أشعث بن قيس تزوج المستعيذة في أيام عمر فهم برجمهما، فأخبر بأنه ﷺ فارقها قبل أن يمسها فترك من غير نكير، فأما إماؤه ﷺ فيحرم منهن الموطوءات على غيره إكراماً له بخلاف غير الموطوءات وقيل : لا تحرم الموطوءات أيضاً.
ونزل فيمن أضمر نكاح عائشة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
﴿إن تبدوا﴾ أي : بألسنتكم وغيرها ﴿شيئاً﴾ أي : من ذلك أو غيره ﴿أو تخفوه﴾ في صدوركم ﴿فإن الله﴾ أي : الذي له جميع صفات الكمال ﴿كان﴾ أي : أزلاً وأبداً به هكذا كان الأصل، ولكنه أتى بما يعمه وغيره فقال ﴿بكل شيء﴾ أي : من ذلك وغيره ﴿عليماً﴾ فهو يعلم ما أسررتم وما أعلنتم وإن بالغتم في كتمه فيجازي عليه من ثواب وعقاب، وفي هذا التعميم مع البرهان على المقصود مزيد تهويل ومبالغة في الوعيد.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٢٩
ولما نزلت آية الحجاب قال : الآباء والأبناء والأقارب ونحن أيضاً نكلمهن من وراء حجاب فنزل قوله تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٢٩
٣٣٤
﴿لا جناح﴾ أي : لا إثم ﴿عليهن في آبائهن﴾ دخولاً وخلوة من غير حجاب سواء كان الأب من النسب أو من الرضاع ﴿ولا أبنائهن﴾ أي : من البطن أو الرضاعة ﴿ولا إخوانهن﴾ لأن عارهنّ عارهم فلا فرق أن يكونوا من النسب أو الرضاع ﴿ولا أبناء إخوانهن﴾ فإنهن بمنزلة آبائهم ﴿ولا أبناء أخواتهن﴾ فإنهن بمنزلة أمهاتهم وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بإبدال الهمزة الثانية ياء خالصة في الوصل وحققها الباقون وفي الابتداء بالثانية الجميع بالتحقيق ﴿ولا نسائهن﴾ أي : المسلمات القربى منهن والبعدى بمنزلة واحدة، وأما الكافرات فهن بمنزلة الأجانب من الرجال لكن رجح النووي أنه يجوز أن تنظر منها ما يبدو عند المهنة ﴿ولا ما ملكت أيمانهن﴾ من العبيد لأنهم لما لهنّ عليهم من السلطان يبعد منهم الريبة هيبة لهن مع مشقة الاحتجاب عنهم.
تنبيه : قدم تعالى الآباء ؛ لأن اطلاعهم على بناتهم أكثر وكيف وهم قد رأوا جميع بدن البنات في حال صغرهن، ثم الأبناء ثم الإخوة وذلك ظاهر، وإنما الكلام في بني الإخوة حيث قدّمهم الله تعالى على بني الأخوات، لأن بني الأخوات آباؤهم ليسوا بمحارم خالات أبنائهم وبني الإخوة آباؤهم محارم، ففي بني الأخوات مفسدة ما، وهي أن الابن ربما يحكي خالته عند أبيه وهو ليس بمحرم ولا كذلك في بني الإخوة.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٣٤