ولما أمر تعالى بذلك علله بقوله تعالى :﴿ذلك﴾ أي : الستر ﴿أدنى﴾ أي : أقرب من تركه في ﴿أن يعرفن﴾ أنهن حرائر بما يميزهن عن الإماء ﴿فلا﴾ أي : فتسبب عن معرفتهن أن لا ﴿يؤذين﴾ ممن يتعرضن للإماء فلا يشتغل قلبك عن تلقي ما يرد عليك من الأنباء الإلهية قال ابن عادل : ويمكن أن يقال : المراد يعرفن أنهن لا يزنين لأن من تستر وجهها مع أنه ليس بعورة أي : في الصلاة لا يطمع فيها أنها تكشف عورتها، فبفرض أنهن مستورات لا يمكن طلب الزنا منهن انتهى.
ولما رقاهن تعالى لهذا الأمر خفف عاقبة ما كن فيه من التشبيه بالإماء فأخبرهن تعالى بوسع كرمه وجوده بقوله تعالى :﴿وكان الله﴾ أي : الذي له الكمال المطلق أزلاً وأبداً ﴿غفوراً﴾ أي : لما سلف منهن من ترك الستر فهو محاء للذنوب عيناً وأثراً ﴿رحيماً﴾ بهن إذ سترهن وبمن يمتثل أوامره ويجتنب نواهيه قال البغوي : قال أنس : مرت بعمر جارية مقنعة فعلاها بالدرة وقال : يا لكاع أتتشبهين بالحرائر ألقي القناع ويظهر أن عمر إنما فعل ذلك خوفاً من أن تلتبس الإماء بالحرائر فلا
٣٣٩
يعرف الحرائر فيعود الأمر كما كان.
ولما كان المأذون بما مضى وغيره أهل النفاق ومن داناهم حذرهم بقوله تعالى مؤكداً دفعاً لظنهم دوام الحلم عليهم :
﴿لئن لم ينته﴾ عن الأذى ﴿المنافقون﴾ أي : الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام ﴿والذي في قلوبهم مرض﴾ أي : غل مقرب من النفاق حامل على المعاصي ﴿والمرجفون في المدينة﴾ المؤمنين أي : بالكذب وذلك أن ناساً منهم كانوا إذا خرجت سرايا رسول الله ﷺ يذيعون في الناس أنهم قد قتلوا أو هزموا ويقولون : قد أتاكم العدو ونحو ذلك، وأصل الرجفة : التحريك من الرجفة وهي الزلزلة سمى به الأخبار الكاذبة لكونها متزلزلة غير ثابتة ﴿لنغرينك بهم﴾ أي : لنسلطنك عليهم بالقتل والجلاء، أو بما يضطرهم إلى طلب الجلاء وقوله تعالى :﴿ثم لا يجاورونك﴾ أي : يساكنونك ﴿فيها﴾ أي : المدينة عطف على لنغرينك وثم للدلالة على أن الجلاء ومفارقة رسول الله ﷺ أعظم ما يصيبهم ﴿إلا قليلاً﴾ أي : زماناً أو جواراً قليلاً، ثم يخرجون منها وقيل : نسلطك عليهم حتى تقتلهم وتخلى منهم المدينة.
وقوله تعالى :
﴿ملعونين﴾ أي : مبعودين عن الرحمة حال من فاعل يجاورونك قاله ابن عطية والزمخشري وأبو البقاء ﴿أينما ثقفوا﴾ أي : وجدوا ﴿أخذوا وقتلوا﴾ ثم أكده بالمصدر بغضاً فيهم وإرهاباً لهم بقوله تعالى :﴿تقتيلاً﴾ أي : الحكم فيهم هذا على وجه الأمر به.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٣٤
وقوله تعالى :
﴿سنة الله﴾ أي : المحيط بجميع العظمة مصدر مؤكد أي : سن الله ذلك ﴿في الذين خلوا من قبل﴾ أي : في الأمم الماضية وهو أن يقتل الذين نافقوا الأنبياء وسعوا في وهنهم بالإرجاف ونحوه أينما ثقفوا ﴿ولن تجد لسنة الله﴾ أي : طريقة الملك الأعظم ﴿تبديلاً﴾ أي : ليست هذه السنة مثل الحكم الذي يتبدل وينسخ، فإن النسخ يكون في الأقوال أما الأفعال إذا وقعت والأخبار فلا تنسخ.
ولما بين تعالى حالهم في الدنيا أنهم ملعونون ومهانون ويقتلون أراد أن يبين حالهم في الآخرة فذكرهم بالقيامة وذكر ما يكون لهم فيها بقوله :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٣٤
﴿يسألك﴾ يا أشرف الخلق ﴿الناس﴾ أي : المشركون استهزاء منهم وتعنتاً وامتحاناً ﴿عن الساعة﴾ أي متى تكون في أي : وقت ﴿قل﴾ أي : لهم في جوابهم ﴿إنما علمها عند الله﴾ الذي أحاط علمه بجميع الأشياء ﴿وما يدريك﴾ أي : أي شيء يعلمك أمر الساعة ومتى يكون قيامها أنت
٣٤٠
لا تعرفه ﴿لعل الساعة﴾ أي : التي لا ساعة في الحقيقة غيرها لما لها من العجائب ﴿تكون﴾ أي : توجد وتحدث على وجه مهوّل عجيب ﴿قريباً﴾ أي : في زمن قريب قال البقاعي : ويجوز أن يكون التذكير لأجل الوقت لأن السؤال عنها إنما هو عن تعيين وقتها قال البخاري في الصحيح : إذا وصفت صفة المؤنث قلت قريبة، وإذا جعلته ظرفاً أو بدلاً ولم ترد الصفة نزعت الهاء من المؤنث، وكذلك لفظها في الاثنين والجمع للذكر والأنثى.
ثم استأنف الإخبار بحال السائلين عنها بقوله تعالى :
﴿إن الله﴾ أي : الملك الأعلى ﴿لعن﴾ أي : أبعد إبعاداً عظيماً من رحمته ﴿الكافرين﴾ أي : الساترين لما من شأنه أن يظهر مما دلت عليه العقول السليمة من أمرها ﴿وأعد﴾ أي : أوجد وهيأ ﴿لهم﴾ من الآن ﴿سعيراً﴾ أي : ناراً شديدة الاضطرام والتوقد لتكذيبهم بها وبغيرها مما أوضح لهم أدلته.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٤٠
خالدين﴾ أي : مقدّراً خلودهم ﴿فيها﴾ أي : السعير وأعاد عليها الضمير مؤنثاً لأنها مؤنثة أو لأنه في معنى جهنم وقوله تعالى :﴿أبداً﴾ بيان لإرادة الحقيقة لئلا يتوهم بالخلود المكث الطويل ﴿لا يجدون ولياً﴾ أي : يتولى أمراً مما يصيبهم بشفاعة أو غيرها ﴿ولا نصيراً﴾ ينصرهم وقوله تعالى :