ولما كان قصدهم بهذا الأذى إسقاط وجاهته قال تعالى :﴿وكان﴾ أي : موسى عليه السلام كوناً راسخاً ﴿عند الله﴾ أي : الذي لا يذل من والاه ﴿وجيهاً﴾ أي : معظماً رفيع القدر ذا وجاهة يقال وجه الرجل يوجه فهو وجيه إذا كان ذا جاه وقدر قال ابن عباس كان عظيماً عند الله تعالى لا يسأله شيئاً إلا أعطاه وقال الحسن كان مجاب الدعوة وقيل كان محبباً مقبولاً.
ولما نهاهم عن الأذى أمرهم بالنفع ليصيروا ذوي وجاهة عنده مكرر للنداء استعطافاً وإظهاراً للاهتمام بقوله تعالى :
﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي : ادعوا ذلك ﴿اتقوا الله﴾ أي : صدقوا دعواكم بمخافة من له جميع العظمة فاجعلوا لكم وقاية من سخطه بأن تبذلوا له جميع ما أودعكم من الأمانة ﴿وقولوا﴾ في حق النبي ﷺ في أمر زينب وغيرها، وفي حق بناته ونسائه وفي حق المؤمنين
٣٤٢
ونسائهم وغير ذلك ﴿قولاً سديداً﴾ قال ابن عباس : صواباً وقال قتادة : عدلاً وقال الحسن : صدقاً وقال عكرمة : هو قول لا إله إلا الله. وقيل : مستقيماً.
﴿يصلح لكم أعمالكم﴾ قال ابن عباس : يتقبل حسناتكم وقال مقاتل : يزكي أعمالكم ﴿ويغفر لكم ذنوبكم﴾ أي : يمحها عيناً وأثراً فلا يعاقب عليها ولا يعاتب ﴿ومن يطع الله﴾ أي : الذي لا أعظم منه ﴿ورسوله﴾ أي : الذي عظمته من عظمته في الأوامر النواهي ﴿فقد فاز﴾ وأكد ذلك بقوله تعالى :﴿فوزاً عظيماً﴾ أي : ظفر بجميع مراداته يعيش في الدنيا حميداً وفي الآخرة سعيداً.
ولما أرشد الله تعالى المؤمنين إلى مكارم الأخلاق وأدب النبي ﷺ بأحسن الآداب بين أن التكليف الذي وجهه الله تعالى إلى الإنسان أمر عظيم بقوله تعالى :
﴿إنا عرضنا الأمانة﴾ واختلف في هذه الأمانة المعروضة فقال ابن عباس : أراد بالأمانة الطاعة من الفرائض التي فرضها الله تعالى على عباده عرضها ﴿على السموات والأرض والجبال﴾ على أنهم إن أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم وقال ابن مسعود : الأمانة أداء الصلوات، وإيتاء الزكوات، وصوم رمضان، وحج البيت، وصدق الحديث، وقضاء الدين والعدل في المكيال والميزان، وأشد من هذا كله الودائع وقال مجاهد : الأمانة الفرائض وحدود الدين. وقال أبو العالية : ما أمروا به ونهوا عنه وقال زيد بن أسلم : هو الصوم والغسل من الجنابة وما يخفى من الشرائع، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : أول ما خلق الله تعالى من الإنسان فرجه، وقال : هذه أمانتي استودعتكها، فالفرج أمانة، والعين أمانة، واليد أمانة، والرجل أمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٤٠
وقال بعضهم : هي أمانات الناس والوفاء بالعهود فحق على كل مؤمن أن لا يغش مؤمناً ولا معاهداً في شيء قليل ولا كثير وهي رواية الضحاك عن ابن عباس وجماعة من التابعين وأكثر السلف أن الله تعالى عرض هذه الأمانة على السموات والأرض والجبال فقال لهن : أتحملن هذه الأمانة بما فيها قلن : وما فيها ؟
فقال : إن أحسنتن جوزيتن وإن عصيتن عوقبتن ﴿فأبين﴾ على عظم أجرامها وقوة أركانها وسعة أرجائها ﴿أن يحملنها﴾ أي : قلن : لا يا رب نحن مسخرات لأمرك لا نريد ثواباً ولا عقاباً ﴿وأشفقن منها﴾ أي : وقلن ذلك خوفاً وخشية وتعظيماً لله تعالى أن لا يقوموا بها لا معصية ومخالفة، وكان العرض عليهن تخييراً لا إلزاماً ولو ألزمن لم يمتنعن من حملها فالجمادات كلها خاضعة لله عز وجل مطيعة ساجدة له كما قال تعالى للسموات والأرض :﴿ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين﴾ (فصلت : ١١)
وقال في الحجارة :﴿وإن منها لما يهبط من خشية الله﴾ (البقرة : ٧٤)
وقال تعالى :﴿ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال﴾ (الحج : ١٨)
الآية وقال بعض أهل العلم : ركّب الله فيهن العقل والفهم حين عرض عليهن الأمانة حتى عقلن الخطاب وأجبن بما أجبن وقال بعضهم : المراد بالعرض على السموات والأرض هو العرض على أهل السموات والأرض عرضها على من فيهما من الملائكة كقوله تعالى :﴿واسأل القرية﴾ (يوسف : ٨٢)
أي : أهلها وقيل : المراد المقابلة أي : قابلنا الأمانة مع السماوات والأرض والجبال فرجحت الأمانة قال البغوي : والأول أصح، وهو قول أكثر العلماء.
تنبيه : قوله تعالى :﴿فأبين﴾ أتى بضمير هذه كضمير الإناث لأن جمع تكسير غير العاقل يجوز فيه ذلك، وإنما ذكر ذلك لئلا يتوهم أنه قد غلب المؤنث وهو السماوات على المذكر وهو الجبال.
٣٤٣
فإن قيل : ما الفرق بين إبائهن وإباء إبليس في قوله تعالى :﴿أبى أن يكون مع الساجدين﴾ (الحجر : ٣١)
أجيب : بأن الإباء هناك كان استكباراً، لأن السجود كان فرضاً وههنا استصغاراً لأن الأمانة كانت عرضاً.


الصفحة التالية
Icon