جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٤٦
تنبيه : قدم تعالى صفة الرحمة على صفة الغفور ليعلم أن رحمته سبقت غضبه.
ثم بين تعالى أن هذه النعمة التي يستحق الله تعالى بها الحمد وهي نعمة الآخرة أنكرها قوم فقال :
﴿وقال الذين كفروا﴾ أي : ستروا ما دلتهم عليه عقولهم من براهينها الظاهرة ﴿لا تأتينا الساعة﴾ أي : أنكروا مجيئها أو استظهارها استهزاء بالوعد به، وقوله تعالى لنبيه ﷺ ﴿قل﴾ أي : لهم ﴿بلى﴾ رد لكلامهم وإيثار لما نفوه ﴿وربي﴾ أي : المحسن إلي بما عمني به معكم وبما خصني من تنبيئي وإرسالي إليكم إلى غير ذلك من أمور لا يحصيها إلا هو ﴿لتأتينكم﴾ أي : الساعة لتظهر فيها ظهوراً تاماً الحكمة بالعدل والفصل وغير ذلك من عجائب الحكم والفضل وقوله تعالى ﴿عالم الغيب﴾ قرأه نافع وابن عامر برفع الميم على هو عالم الغيب، أو مبتدأ وخبره ما بعده، وابن كثير وأبو عمرو وعاصم بجره نعتاً لربي وقرأ حمزة والكسائي بعد العين بلام ألف مشددة وخفض الميم ﴿لا يعزب﴾ أي : لا يغيب ﴿عنه مثقال﴾ أي : وزن ﴿ذرة﴾ أي : من ذات ولا معنى، والذرة : النملة الحمراء الصغيرة جداً صارت مثلاً في أقل القليل فهي كناية عنه، وقرأ الكسائي بكسر الزاي والباقون بضمها.
وقوله تعالى ﴿في السموات ولا في الأرض﴾ فيه لطيفة وهي أن الإنسان له جسم وروح فالأجسام أجزاؤها في الأرض والأرواح في السماء فقوله تعالى ﴿في السموات﴾ إشارة إلى علمه بالأرواح وما فيها من الملائكة وغيرهم. وقوله تعالى ﴿ولا في الأرض﴾ إشارة إلى علمه بالأجسام وما في الأرض من غيرها، فإذا علم الأرواح والأجسام قدر على جمعهما فلا استبعاد في الإعادة. وقوله تعالى :﴿ولا أصغر﴾ أي : ولا يكون شيء أصغر ﴿من ذلك﴾ أي : المثقال ﴿ولا أكبر﴾ أي : منه ﴿إلا في كتاب مبين﴾ أي : بين هو اللوح المحفوظ جملة مؤكدة لنفي العزوب.
فإن قيل : فأي حاجة إلى ذكر الأكبر فإن من علم الأصغر من الذرة لا بد وأن يعلم الأكبر ؟
أجيب : بأنه تعالى أراد بيان إثبات الأمور في الكتاب فلو اقتصر على الأصغر لتوهم متوهم أنه يثبت الصغار لكونها محل النسيان، وأما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته فقال : الإثبات في الكتاب ليس كذلك فإن الأكبر أيضاً مكتوب.
ثم بين علة ذلك كله بقوله :
﴿ليجزي الذين آمنوا وعملوا﴾ تصديقاً لإيمانهم ﴿الصالحات﴾ أي : وإنه ما خلق الأكوان إلا لأجل الإنسان فلا يدعه بغير جزاء، ثم بين جزاءهم بقوله تعالى :﴿أولئك﴾ أي : العالو الرتبة ﴿لهم مغفرة﴾ أي : لزلاتهم وهفواتهم لأن الإنسان المبني على
٣٤٨
النقصان لا يقدر أن يقدر العظيم السلطان حق قدره ﴿ورزق كريم﴾ أي : جليل عزيز دائم لذيذ نافع شهي لا كدر فيه وهو رزق الجنة.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٤٦
تنبيه : ذكر تعالى في الذين آمنوا وعملوا الصالحات أمرين : الإيمان، والعمل الصالح، وذكر لهم أمرين : المغفرة والرزق الكريم، فالمغفرة جزاء الإيمان فكل مؤمن مغفور له لقوله تعالى ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾ (النساء : ٤٨) وقوله ﷺ "يخرج من النار من قال : لا إله إلا الله ومن في قلبه وزن ذرة من إيمان"، والرزق الكريم على العمل الصالح وهذا مناسب، فإن من عمل لسيد كريم عملاً فعند فراغه لا بد وأن ينعم عليه وقوله تعالى ﴿كريم﴾ بمعنى : ذي كرم أو مكرم أو لأنه يأتي من غير طلب بخلاف رزق الدنيا فإنه إن لم يطلب ويتسبب فيه لا يأتي غالباً.
فإن قيل : ما الحكمة في تمييزه الرزق بأنه كريم ولم يصف المغفرة ؟
أجيب : بأن المغفرة واحدة وهي للمؤمنين، وأما الرزق فمنه شجرة الزقوم والحميم، ومنه الفواكه والشراب الطهور فميز الرزق لحصول الانقسام فيه ولم يميز المغفرة لعدم الانقسام فيها.
ولما بين تعالى حال المؤمنين يوم القيامة بين حال الكافرين في ذلك اليوم بقوله سبحانه :
﴿والذين سعوا﴾ أي : فعلوا فعل الساعي ﴿في آياتنا﴾ أي : القرآن بالإبطال وتزهيد الناس فيها وقوله تعالى :﴿معجزين﴾ قرأه ابن كثير وأبو عمرو بغير ألف بعد العين وتشديد الجيم أي : مبطئين عن الإيمان من أراده، والباقون بألف بعد العين وتخفيف الجيم وكذا في آخر السورة أي : مسابقين كي يفوتونا ﴿أولئك﴾ الحقيرون عن أن يبلغوا مراداً بمعاجزتهم ﴿لهم عذاب﴾ وأي عذاب ﴿من رجز﴾ أي : سيئ العذاب ﴿أليم﴾ أي : مؤلم وقرأ ابن كثيرة وحفص أليم بالرفع على أنه صفة لعذاب، والباقون بالجر على أنه صفة لرجز قال الرازي : قال هناك لهم رزق كريم ولم يقل بمن التبعيضية فلم يقل لهم نصيب من رزق ولا رزق من جنس كريم، وقال ههنا ﴿لهم عذاب من رجز أليم﴾ بلفظة صالحة للتبعيض وذلك إشارة إلى سعة الرحمة وقلة الغضب وقوله :


الصفحة التالية
Icon