﴿ويرى الذين أوتوا العلم﴾ أي : الذي قذفه الله تعالى في قلوبهم سواء كانوا ممن أسلم من العرب أو أهل الكتاب وقيل : مؤمنو أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه وقيل : الصحابة ومن شايعهم فيه وجهان : أحدهما : أنه عطف على ليجزي أي : وليعلم الذين أوتوا العلم. والثاني : أنه مستأنف أخبر عنهم بذلك ﴿الذي أنزل إليك من ربك﴾ أي : المحسن إليك بإنزاله ﴿هو الحق﴾ أي : أنه من عند الله تعالى.
تنبيه : الذي أنزل هو المفعول الأول، وهو ضمير فصل والحق : مفعول ثان لأن الرؤية علمية.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٤٦
وقوله تعالى ﴿ويهدي إلى صراط﴾ أي : طريق ﴿العزيز الحميد﴾ في فاعله وجهان أظهرهما أنه ضمير الذي أنزل وهو القرآن. والثاني : ضمير اسم الله تعالى وهاتان الصفتان يفيدان الرهبة
٣٤٩
والرغبة، العزيز : يفيد التخويف والانتقام من المكذب والحميد يفيد الترغيب في الرحمة للمصدق.
﴿وقال الذين كفروا﴾ أي : قال بعضهم على وجه التعجب لبعض ﴿هل ندلكم على رجل﴾ يعنون محمداً ﷺ ﴿ينبئكم﴾ أي : يخبركم إخباراً لا أعظم منه بما حواه من العجب الخارج عما نفعله أنكم ﴿إذا مزقتم﴾ أي : قطعتم وفرقتم بعد موتكم. وقوله تعالى ﴿كل ممزق﴾ يحتمل أن يكون اسم مفعول أي : كل تمزيق فلم يبق شيء من أجسادكم مع شيء بل صار الكل بحيث لا يميز بين ترابه وتراب الأرض، ويحتمل أن يكون ظرف مكان بمعنى إذا مزقتم وذهبت بكم الرياح والسيول كل مذهب ﴿إنكم لفي خلق جديد﴾ أي : تنشؤون خلقاً جديداً بعد أن تكونوا رفاتاً وتراباً.
والهمزة في قوله :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٤٦
﴿أفترى﴾ أي : تعمد ﴿على الله﴾ أي : الذي لا أعلم منه ﴿كذباً﴾ أي : بالإخبار بخلاف الواقع وهو عاقل صحيح القصد همزة استفهام فالقراء الجميع يحققونها، واستغنى بها عن همزة الوصل فإنها تحذف لأجلها فلذلك تثبت هذه الهمزة ابتداء ووصلاً، قال البغوي : هذه ألف استفهام دخلت على ألف الوصل فلذلك نصبت ﴿أم به جنة﴾ أي : جنون يحكى به ذلك، واستدل الجاحظ بهذه الآية على أن الكلام ثلاثة أقسام : صدق وكذب، ولا صدق ولا كذب ووجه الدلالة منه على القسم الثالث أن قولهم ﴿أم به جنة﴾ لا جائز أن يكون كذباً لأنه قسيم الكذب وقسيم الشيء غيره، ولا جائز أن يكون صدقاً لأنهم لم يعتقدوه فثبت قسم ثالث. وأجيب عنه : بأن المعنى أم لم يفتر ولكن عبر هذا بقولهم ﴿أم به جنة﴾ لأن المجنون لا افتراء له.
تنبيه : قوله ﴿أفترى﴾ يحتمل أن يكون من تمام قول الكافرين أولاً أي : من كلام القائلين ﴿هل ندلكم﴾ ويحتمل أن يكون من كلام السامع المجيب للقائل ﴿هل ندلكم﴾ كأن القائل لما قال له ﴿هل ندلكم على رجل﴾ قال له : هل افترى على الله كذباً إن كان يعتقد خلافه أم به جنة أي : جنون إن كان لا يعتقد خلافه.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٥٠
ولما كان الجواب ليس به شيء من ذلك عطف عليه قوله تعالى ﴿بل الذين لا يؤمنون﴾ أي : لا يوجدون الإيمان لأنهم طبعوا على الكفر ﴿بالآخرة﴾ أي : المشتملة على البعث والعذاب ﴿في العذاب﴾ أي : في الآخرة ﴿والضلال البعيد﴾ أي : عن الصواب في الدنيا، فرد الله تعالى عليهم ترديدهم وأثبت لهم سبحانه ما هو أفظع من القسمين فقوله تعالى ﴿بل الذين لا يؤمنون بالآخرة ﴾(يس : ٨١)
في العذاب في مقابلة قولهم ﴿أفترى على الله كذباً﴾ وقوله تعالى ﴿والضلال البعيد﴾ في مقابلة قولهم ﴿أم به جنة﴾ وكلاهما مناسب، أما العذاب فلأن نسبة الكذب إلى الصادق مؤد إلى أنه شهادة عليه بأنه يستحق العذاب فجعل العذاب عليهم حيث نسبوا الكذب إلى البريء، وأما الضلال فلأن نسبة الجنون إلى العاقل دونه في الإيذاء، فإنه لا يشهد عليه بأنه يعذب وإنما ينسبه إلى عدم الهداية فبين تعالى أنهم هم الضالون، ثم وصف ضلالهم بالبعد ووصف الضلال به للإسناد المجازي لأن من يسمى المهدي ضالاً يكون أضل، والنبي ﷺ هادي كل مهتد.
ولما ذكر تعالى الدليل على كونه عالم الغيب وكونه مجازياً على السيئات والحسنات، ذكر دليلاً آخر فيه التهديد والتوحيد بقوله تعالى :
﴿أفلم يروا﴾ أي : ينظروا ﴿إلى ما بين أيديهم﴾ أي : أمامهم ﴿وما خلفهم﴾ وذلك إشارة إلى جميع الجوانب من كلا الخافقين فقوله تعالى ﴿من السماء والأرض﴾ دليل التوحيد فإنهما يدلان على الوحدانية، ويدلان على الحشر والإعادة لأنهما يدلان على كمال القدرة لقوله تعالى ﴿أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم﴾( يس،
٣٥٠
٨١) وأما دليل التهديد فقوله تعالى ﴿إن نشأ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿نخسف بهم الأرض﴾ أي : كما فعلنا بقارون وذويه لأنه ليس نفوذ بعض أفعالنا فيه بأولى من غيره ﴿أو نسقط عليهم كسفاً﴾ أي : قطعاً ﴿من السماء﴾ فنهلكهم بها، وقرأ حفص بفتح السين والباقون بسكونها.