جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٥٠
تنبيه : كما قال تعالى عقب قوله سبحانه ﴿أن اعمل سابغات﴾ :﴿اعملوا صالحاً﴾ قال عقب ما تعمله الجن له ﴿اعملوا آل داود شكراً﴾ إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يجعل الإنسان نفسه مستغرقة في هذه الأشياء، وإنما الإكثار من العمل الصالح الذي يكون شكراً، وقوله تعالى ﴿وقليل﴾ خبر مقدم وقوله تعالى ﴿من عبادي﴾ صفة له وقوله تعالى ﴿الشكور﴾ مبتدأ والمعنى : أن العامل بطاعتي المتوفر الدواعي بظاهره وباطنه من قلبه ولسانه ويديه على الشكر بأن يصرف جميع ما أنعم الله تعالى به عليه فيما يرضيه قليل، ومع ذلك لا يوفي حقه لأن توفيقه للشكر نعمة تستدعي شكراً آخر لا إلى نهاية، ولذلك قيل : الشكور من يرى عجزه عن الشكر، وعبر بصيغة فعول إشارة إلى أن من يقع منه مطلق الشكر كثير، وأقل ذلك حال الاضطرار وقيل : المراد من آل داود عليه السلام هو داود نفسه وقيل : داود وسليمان وأهل بيتهما عليهما السلام قال جعفر بن سليمان : سمعت ثابتاً يقول : كان داود عليه السلام نبي الله ﷺ قد جزأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تك تأتي ساعة من ساعات الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود عليه السلام قائم يصلي، وقال ﷺ في صلاة النافلة :"أفضل الصلاة صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه، وينام سدسه" وقال في صوم التطوع :"أفضل الصيام صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً" وروي عن عمر رضي الله عنه أنه سمع رجلاً يقول : اللهم اجعلني من القليل فقال عمر : ما هذا الدعاء فقال : إني سمعت الله يقول ﴿وقليل من عبادي الشكور﴾ فأنا أدعوه أن يجعلني من ذلك القليل فقال عمر : كل الناس أعلم من عمر.
ولما كان الموت مكتوباً على كل أحد قال تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٥٠
فلما قضينا﴾
وحقق صفة القدرة بأداة
٣٥٧
الاستعلاء بقوله تعالى :﴿عليه﴾ أي : سليمان عليه السلام ﴿الموت﴾ قال أهل العلم : كان سليمان يتحنث في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين وأقل من ذلك وأكثر، فيدخل فيه ومعه طعامه وشرابه فلما دنا أجله لم يصبح إلا رأى في محرابه شجرة نابتة قد أنطقها الله تعالى فسألها ما اسمك فتقول : كذا وكذا فيقول : لأي شيء خلقت فتقول : لكذا وكذا فيؤمر بها فتقلع فإن كانت تنبت لغرس غرسها، وإن كانت تنبت لدواء كتب ذلك حتى نبتت الخروبة فقال لها : ما أنت قالت : الخروبة قال : لأي شيء نبت قالت : لخراب مسجدك قال عليه السلام : ما كان الله ليخربه وأنا حي، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس فنزعها وغرسها في حائط له ثم قال : اللهم عم على الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، لأنهم كانوا يسترقون السمع ويموهون على الناس أنهم يعلمون الغيب وقال لملك الموت : إذا أمرت بي فأعلمني فقال : أمرت بك وقد بقيت من عمرك ساعة فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحاً من قوارير ليس له باب فقام يصلي متكئاً على عصاه فقبض الله روحه وهو متكئ عليها، وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه أينما صلى، وكان للمحراب كوى بين يديه وخلفه فكانت الجن تعمل الأعمال الشاقة التي كانوا يعملونها في حياته، وينظرون إلى سليمان عليه السلام فيرونه قائماً متكئاً على عصاه فيحسبونه حياً فلا ينكرون خروجه إلى الناس لطول صلاته، فمكثوا يدأبون له بعد موته حولاً كاملاً حتى أكلت الأرضة عصا سليمان فخر ميتاً فعلموا بموته حينئذ كما قال تعالى ﴿ما دلهم على موته إلا دابة الأرض﴾ أي : الأرضة لأنا جعلنا له من سعة العلم ووفور الهيبة ونفوذ الأمر ما تمكن به من إخفاء موته عنهم ﴿تأكل منسأته﴾ قال البخاري : يعني عصاه فالمنسأة العصا اسم آلة من نسأه أخره كالمكسحة والمكنسة من نسأت الغنم أي : زجرتها وسقتها، ومنه نسأ الله في أجله أي : أخره وقرأ نافع وأبو عمرو بعد السين بألف وابن ذكوان بعد السين بهمزة ساكنة والباقون بهمزة مفتوحة بعد السين فإذا وقف حمزة سهل الهمزة وقيل لم يكن شيطان ينظر إليه في صلاته إلا احترق فمر به شيطان فلم يسمع صوته، ثم رجع فلم يسمع فنظر فإذا سليمان قد خر ميتاً ففتحوا عنه فإذا العصا قد أكلتها الأرضة ﴿فلما خر﴾ أي : سقط على الأرض بعد أن قصمت الأرضة عصاه ﴿تبينت الجن﴾ أي : علمت علماً بيناً لا يقدرون معه على تدبيج وتلبيس وانفضح أمرهم وظهر ظهوراً تاماً ﴿أن﴾ أي : أنهم ﴿لو كانوا﴾ أي : الجن ﴿يعلمون الغيب﴾ أي : علمه ﴿ما لبثوا﴾ أي : أقاموا حولاً ﴿في العذاب المهين﴾ من ذلك العمل الذي كانوا مسخرين فيه، ويجوز أن تكون أن تعليلية ويكون التقدير : تبين حال الجن فيما يظن بهم من أنهم يعلمون الغيب لأنهم إلخ، وسبب علمهم مدة كونه ميتاً قبل ذلك أنهم وضعوا الأرضة على موضع من العصا فأكلت منها يوماً وليلة مقداراً، وحسبوا على ذلك النحو فوجدوا المدة سنة قال ابن عباس : فشكر الجن الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب.


الصفحة التالية
Icon