وأمر بأن يقول لهم بعد لاإلزام والإلجام الذي إن لم يزد على إقرارهم بألسنتهم لم يتقاصر عنه ﴿وإنا أو إياكم﴾ أي : أحد الفريقين من الذين يوحدون الرازق من السموات والأرض بالعبادة، ومن الذين يشركون به الجماد الذي لا يوصف بالقدرة ﴿لعلى هدى﴾ أي : في متابعة ما ينبغي أن يعمل مستعلين عليه ﴿أو في ضلال﴾ عن الحق ﴿مبين﴾ أي : بين في نفسه داع لكل أحد إلى معرفة أنه ضلال، وهذا ليس على طريق الشك لأنه ﷺ لم يشك أنه على هدى ويقين، وأن الكفار على ضلال مبين وإنما هذا الكلام جار على ما تخاطب به العرب من استعمال الإنصاف في محاوراتهم على سبيل الفرض والتقدير، ويسميه أهل البيان الاستدراج، وهو أن يذكر لمخاطبه أمراً يسلمه وإن كان بخلاف ما يذكر حتى يصغي إلى ما يلقيه إليه إذ لو بدأه بما يكره لم يصغ ونظيره قولهم : أخزى الله الكاذب مني ومنك، ومثله قول حسان رضي الله تعالى عنه يريد رسول الله ﷺ وأبا سفيان :
*أتهجوه ولست له بكفء ** فشر كما لخيركما الفداء*
٣٦٧
*فإن أبي ووالدتي وعرضي ** لعرض محمد منكم وقاء*
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٦٦
مع العلم لكل أحد أنه ﷺ خير خلق الله كلهم.
تنبيه : ذكر تعالى في الهدى كلمة على، وفي الضلال كلمة في، لأن المهتدي كأنه مرتفع مطلع فذكر بكلمة التعالي فكأنه مستعل على فرس جواد يركضه حيث شاء، والضال منغمس في الظلمة غريق فيها فأتى بكلمة في فكأنه منغمس في ظلام مرتبك فيه لا يدري أين يتوجه قال البغوي : وقال بعضهم : أو بمعنى الواو والألف فيه صلة كأنه يقول : وإنا وإياكم لعلى هدى وفي ضلال مبين يعني : نحن على الهدى وأنتم في الضلال.
﴿قل﴾ أي : لهم ﴿لا تسألون﴾ أي : من سائل ما ﴿عما أجرمنا﴾ أي : لا تؤاخذون به ﴿ولا نسأل﴾ أي : في وقت من الأوقات من سائل ما ﴿عما تعملون﴾ أي : من الكفر والتكذيب وهذا أدخل في الإنصاف وأبلغ في التواضع حيث أسندوا الإجرام إلى أنفسهم والعمل إلى المخاطبين، وقيل : المراد بالإجرام الصغائر والزلات التي لا يخلو منها مؤمن، وبالعمل الكفر والمعاصي العظام.
﴿قل﴾ أي : لهم ﴿يجمع بيننا ربنا﴾ أي : يوم القيامة ﴿ثم يفتح﴾ أي : يحكم ﴿بيننا بالحق﴾ أي : الأمر الثابت الذي لا يقدر أحد منا ولا منكم على التخلف عنه وهو العدل والفضل من غير ظلم ولا ميل، فيدخل المحقين الجنة والمبطلين النار ﴿وهو الفتاح﴾ أي : الحاكم الفاصل في القضايا المغلقة البليغ الفتح لما انغلق فلا يقدر أحد على فتحه ﴿العليم﴾ أي : البليغ العلم بكل دقيق وجليل فلا تخفى عليه خافية.
﴿قل﴾ أي : لهم ﴿أروني﴾ أي : أعلموني ﴿الذين ألحقتم به﴾ أي : بالله ﴿شركاء﴾ أي : في العبادة هل يخلقون وهل يرزقون وقوله تعالى :﴿كلا﴾ أي : لا يخلقون ولا يرزقون ردع لهم عن مذهبهم بعد ما كسره بإبطال المقايسة كما قال إبراهيم عليه السلام ﴿أف لكم ولما تعبدون من دون الله﴾ (الأنبياء : ٦٧)
بعدما حجهم وقد نبه على تفاحش غلطهم بقوله تعالى :﴿بل هو الله العزيز﴾ أي : الغالب على أمره الذي لا مثل له وكل شيء يحتاج إليه ﴿الحكيم﴾ أي : المحكم لكل ما يفعله فلا يستطيع أحد نقض شيء منه فكيف يكون له شريك، وأنتم ترون ما ترون له من هاتين الصفتين المنافيتين لذلك.
تنبيه : في هذا الضمير وهو "هو" قولان : أحدهما : أنه عائد إلى الله تعالى أي : ذلك الذي ألحقتم به شركاء هو الله والعزيز الحكيم صفتان. والثاني : أنه ضمير الأمر والشأن والله مبتدأ، والعزيز الحكيم خبر إن والجملة خبر هو.
فإن قيل : ما معنى قوله ﴿أروني﴾ وكان يراهم ويعرفهم أجيب : بأنه أراد بذلك أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله تعالى وأن يقاس على أعينهم فيه وبين أصنامهم ليطلعهم على إحالة القياس إليه والإشراك به.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٦٦
ولما بين تعالى مسألة التوحيد شرع في الرسالة بقوله سبحانه وتعالى :
﴿وما أرسلناك﴾ أي : بعظمتنا ﴿إلا كافة للناس﴾ أي : إرسالاً عاماً شاملاً لكل ما شمله إيجادنا فكأنه حال من الناس قدم للاهتمام، وقول البيضاوي : ولا يجوز جعلها حالاً من الناس أي : لأن تقديم حال المجرور عليه
٣٦٨
كتقديم المجرور على الجار رده أبو حيان بقوله : هذا ما ذهب إليه الجمهور وذهب أبو علي وابن كيسان وابن برهان وابن ملكون إلى جوازه وهو الصحيح انتهى. وهذا هو الذي ينبغي اعتماده ويؤيده قوله ﷺ "كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة" ومن أمثلة أبي علي : زيد خير ما يكون خير منك والتقدير : زيد خير منك خير ما يكون وأنشد :
*إذا المرء أعيته المطالب ناشئاً ** فمطلبها كهلاً عليه شديد*
أي : فمطلبها عليه كهلاً وأنشد أيضاً :
*تسليت طراً عنكم بعد بينكم ** بذكراكم حتى كأنكم عندي*