صالحاً ﴿فأولئك﴾ أي : العالو الرتبة ﴿لهم جزاء الضعف﴾ أي : أن يأخذوا جزاءهم مضاعفاً في نفسه من عشرة أمثاله إلى ما لا نهاية له ﴿بما عملوا﴾ فإن أعمالهم ثابتة محفوظة بأساس الإيمان، ثم زاد وقال تعالى ﴿وهم في الغرفات﴾ أي : العلالي المبنية فوق البيوت في الجنات زيادة على ذلك ﴿آمنون﴾ أي : ثابت أمانهم دائماً لا خوف عليهم من شيء من الأشياء أصلاً، وأما غيرهم وهم المرادون بما بعده فأموالهم وأولادهم وبال عليهم، وقرأ حمزة بسكون الراء ولا ألف بعد الفاء على التوحيد على إرادة الجنس ولعدم اللبس لأنه معلوم أن لكل أحد غرفة تخصه، وقد أجمع على التوحيد في قوله تعالى :﴿يجزون الغرفة﴾ (الفرقان : ٧٥)
ولأن لفظ الواحد أخف فوضع موضع الجمع مع أمن اللبس، والباقون بضم الراء وألف بعد الفاء على الجمع جمع سلامة، وقد أجمع على الجمع في قوله تعالى ﴿لنبوأنهم من الجنة غرفاً﴾ (العنكبوت : ٥٨)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٧١
ثم بين حال المسيء وهو من يبعده ماله وولده من الله تعالى بقوله سبحانه وتعالى :
﴿والذين يسعون﴾ أي : يجددون السعي من غير توبة بأموالهم وأولادهم ﴿في﴾ إبطال ﴿آياتنا﴾ أي : حجتنا على ما لها من عظمة الانتساب إلينا ﴿معجزين﴾ أي : طالبين تعجيزها أي : تعجيز الآتين بها عن إنفاذ مرادهم بها بما يلقون من الشبه فيضلون غيرهم بما أوسعنا عليهم وأعززناهم به من الأموال والأولاد ﴿أولئك﴾ أي : هؤلاء البعداء البغضاء ﴿في العذاب﴾ أي : المزيل للعذوبة ﴿محضرون﴾ أي : يحضرهم فيه الموكلون بهم من جندنا على أهون وجه وأسهله.
﴿قل﴾ أي : يا أشرف الخلق لجميع الخلق ومنهم هؤلاء ﴿إن ربي﴾ أي : المحسن إلي بهذا البيان وغيره ﴿يبسط الرزق﴾ أي : يوسعه ﴿لمن يشاء﴾ متى شاء ﴿من عباده﴾ امتحاناً ﴿ويقدر﴾ أي : يضيقه ﴿له﴾ بعد البسط ابتلاء قال البيضاوي : فهذا في شخص واحد باعتبار وقتين، وما سبق في شخصين فلا تكرار.
ولما بين بهذا البسط أن فعله بالاختيار بعد أن بين بالأول كذبهم في أنه سبب السلامة من النار دل على أنه الفاعل لا غيره بقوله تعالى :﴿وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه﴾ أي : فهو يعوضه لا معوض سواه إما عاجلاً بالمال، أو بالقناعة التي هي كنز لا ينفد، وإما آجلاً بالثواب الذي كل خلف دونه، وعن سعيد بن جبير ما كان في غير إسراف ولا تقتير فهو يخلفه، وعن الكلبي ما تصدقتم من صدقة أو أنفقتم في خير من نفقة فهو يخلفه على المنفق، إما أن يعجل له في الدنيا، وإما أن يدخر له في الآخرة، وعن مجاهد من كان عنده من هذا المال ما يقيمه فليقتصد، فإن الرزق مقسوم، ولعل ما قسم له قليل وهو ينفق نفقة الموسع عليه فينفق جميع ما في يده ثم يبقى طول عمره في فقر ولا يتأول ﴿وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه﴾ (سبأ : ٣٩)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٧١
فإن هذا في الآخرة ومعنى الآية : وما كان من خلف فهو منه فدل ذلك على أنه مختص بالإخلاف لأنه ضمن الإخلاف لكل ما ينفق على أي وجه كان، وعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال :"قال الله تبارك وتعالى أنفق ينفق عليك" ولمسلم :"يا ابن آدم أنفق أنفق عليك" وعن أبي هريرة أيضاً : أن رسول الله ﷺ قال :"ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان يقول أحدهما : اللهم أعط منفقاً خلفاً ويقول الآخر :
٣٧٤
اللهم أعط ممسكاً تلفاً" وعنه أيضاً : أن رسول الله ﷺ قال :"ما نقصت أحد صدقة من مال وما زاد الله رجلاً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله عز وجل" وعن عبد الحميد بن الحسن الهلالي قال : أنبأنا محمد بن المكندر عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله ﷺ "كل معروف صدقة" "وكل ما أنفق الرجل على نفسه وأهله كتب له صدقة" "وما وقى الرجل به عرضه كتب له بها صدقة" قلت : ما معنى وقى به عرضه قال : ما أعطى الشاعر وذا اللسان المتقي، وما أنفق المؤمن من نفقة فعلى الله خلفها ضامناً إلا ما كان من نفقة في بنيان أو معصية الله عز وجل قوله : قلت ما معنى مقول عبد الحميد لمحمد بن المكندر ﴿وهو خير الرازقين﴾ فإن قيل : قوله تعالى خير الرازقين ينبئ عن كثرة الرازقين ولا رازق إلا الله تعالى أجيب : بأن الله تعالى هو خير الرازقين الذين يغذونهم هذا الغذاء ممن يقيمهم الله تعالى فيضيفون الرزق إليهم، لأن كل من يرزق غيره من سلطان يرزق جنده، أو سيد يرزق عبده، أو رجل يرزق عياله فهو واسطة لا يقدر إلا على ما قدره الله، وأما هو سبحانه فهو يوجد المعدوم ويرزق من يطيعه ومن يعصيه ولا يضيق رزقه بأحد ولا يشغله فيه أحد عن أحد وعن بعضهم الحمد لله الذي أوجدني وجعلني ممن يشتهي فيجد فكم من مشته لا يجد وواجد لا يشتهي، وقرأ أبو عمر وقالون والكسائي فهو يخلفه بسكون الهاء والباقون بالضم.