ولما بين تعالى أن حال النبي ﷺ كحال من تقدمه من الأنبياء وحال قومه كحال من تقدم من الكفار وبين بطلان استدلالهم بكثرة أموالهم وأولادهم، بين ما يكون عاقبة حالهم بقوله تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٧١
٣٧٥
﴿ويوم يحشرهم﴾ أي : نجمعهم جمعاً بكره بعد البعث وعم التابع والمتبوع بقوله تعالى :﴿جميعاً﴾ فلم نغادر منهم أحداً، وقرأ حفص يحشرهم ثم يقول بالياء والباقون بالنون.
ولما كانت مواقف الحشر طويلة وزلازله مهولة قال تعالى :﴿ثم نقول للملائكة﴾ أي : توبيخاً للكافرين وإقناطاً مما يرجون منهم من الشفاعة ﴿أهؤلاء﴾ أي : الضالون وأشار إلى أنه لا ينفع من العبادة إلا ما كان خالصاً بقوله تعالى :﴿إياكم﴾ أي : خاصة ﴿كانوا يعبدون﴾ فهذا الكلام خطاب للملائكة وتقريع للكفار وارد على المثل السائر :
إياك أعني واسمعي يا جارة ونحوه قوله عز وجل :﴿أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله﴾ (المائدة : ١١٦)
وقد علم سبحانه كون الملائكة وعيسى منزهين براء مما وجه عليهم من السؤال الوارد على طريق التقرير والغرض أن يقول ويقولوا، ويسأل ويجيبوا فيكون تقريعهم أشد وتعييرهم أبلغ وخجلهم أعظم ولذلك :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٧٥
قالوا﴾ أي : الملائكة متبرئين منهم مفتتحين بالتنزيه تخضعاً بين يدي البراءة خوفاً ﴿سبحانك﴾ أي : تنزهك تنزيهاً يليق بجلالك عن أن يستحق أحد غيرك أن يعبد ﴿أنت ولينا﴾ أي : معبودنا الذي لا وصلة بيننا وبين أحد إلا بأمره ﴿من دونهم﴾ أي : ليس بيننا وبينهم ولاية بل عداوة، وكذا كان من تقرب إلى شخص بمعصية الله تعالى فإنه يقسى الله تعالى قلبه عليه ويبغضه فيه فيجافيه ويعاديه.
ثم أضربوا عن ذلك ونفوا أنهم عبدوهم على الحقيقة بقولهم ﴿بل كانوا يعبدون الجن﴾ أي : إبليس وذريته الذين زينوا لهم عبادتنا من غير رضانا بذلك، وكانوا يدخلون في أجواف الأصنام ويخاطبونهم ويستجيرون بهم في الأماكن المخوفة، ومن هذا تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد القطيفة.
وقيل : صورت الشياطين لهم صور قوم من الجن وقالوا : هذه صور الجن فاعبدوها ثم استأنفوا قولهم ﴿أكثرهم﴾ أي : الإنس ﴿بهم﴾ أي : الجن ﴿مؤمنون﴾ أي : راسخون في الإشراك لا يقصدون بعبادتهم غيرهم.
وقيل : الضمير الأول للمشركين والأكثر : بمعنى الكل وقيل : منهم من يقصد بعبادته بتزيين الجن غيرهم وهم مع ذلك يصدقون ما يرد عليهم من إخبارات الجن على ألسنة الكهان وغيرهم مع ما يرون فيها من الكذب في كثير من الأوقات.
ولما بطلت تمسكاتهم وانقطعت تعلقاتهم تسبب عن ذلك تقريعهم الناشئ عن تنديمهم بقوله تعالى : بلسان العظمة :
﴿فاليوم﴾ أي : يوم مخاطبتهم بهذا التبكيت وهو يوم الحشر ﴿لا يملك﴾ أي : شيئاً من الملك ﴿بعضكم لبعض﴾ أي : من المقربين والمبعدين ﴿نفعاً ولا ضراً﴾ بل تنقطع الأسباب التي كانت في دار التكليف من دار الجزاء التي المقصود فيها تمام إظهار العظمة لله وحده على أتم الوجوه.
٣٧٦
فإن قيل : قوله تعالى نفعاً مفيد للحسرة فما فائدة ذكر الضر مع أنهم لو كانوا يملكون الضر لما نفع الكافرين ذلك أجيب : بأن العبادة لما كانت تقع لدفع ضرر المعبود كما يعبد الجبار ويخدم مخافة شره بين أنه ليس فيهم ذلك الوجه الذي تحسن لأجله عبادتهم وقوله تعالى :﴿ونقول﴾ أي : في ذلك الحال من غير إمهال ﴿للذين ظلموا﴾ أي : بوضع العبادة في غير موضعها عند إدخالهم النار ﴿ذوقوا عذاب النار التي كنتم﴾ أي : جبلة وطبعاً ﴿بها تكذبون﴾ عطف على لا يملك فبين المقصود من تمهيده، فإن قيل : قوله ههنا التي كنتم بها صفة للنار وفي السجدة وصف العذاب فجعل المكذب هنا النار، وجعل المكذب في السجدة العذاب وهم كانوا يكذبون بالكل فما فائدته أجيب : بأنهم كانوا متلبسين بالعذاب مترددين فيه بدليل قوله تعالى :﴿كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون﴾ (السجدة : ٢٠)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٧٥
فوصف لهم ما لابسوه وهنا لم يلابسوه بعد لأنه عقب حشرهم وسؤالهم فهو أول ما رأوا النار فقيل لهم ﴿هذه النار التي كنتم بها تكذبون﴾.
﴿وإذا تتلى عليهم﴾ أي : في وقت من الأوقات من أي تال كان ﴿آياتنا﴾ أي : من القرآن حال كونها ﴿بينات﴾ أي : واضحات بلسان نبينا محمد ﷺ ﴿قالوا ما هذا﴾ يعنون محمداً ﷺ ﴿إلا رجل﴾ أي : مع كونه واحداً هو مثل واحد من رجالكم وتزيدون أنتم عليه بالكثرة ﴿يريد أن يصدكم﴾ بهذا الذي يتلوه ﴿عما كان يعبد آباؤكم﴾ من الأصنام أي : لا قصد له إلا ذلك لتكونوا له أتباعاً فعارضوا البرهان بالتقليد ﴿وقالوا ما هذا﴾ أي : القرآن وقيل : القول بالوحدانية ﴿إلا أفك﴾ أي : كذب مصروف عن وجهه ﴿مفتري﴾ بإضافته إلى الله تعالى كقوله تعالى في حقهم ﴿أئفكاً آلهة دون الله تريدون﴾ (الصافات : ٨٦)