﴿والذين لا يشهدون﴾ أي : لا يحضرون ﴿الزور﴾ أي : القول المنحرف عن الصدق كذباً كان أو مقارباً له فضلاً عن أن يتفوهوا به للخبر فلا يسمعوا أو يقروا عليه في مواعظ عيسى بن مريم عليه السلام إياكم ومجالسة الخطائين ويحتمل أنهم لا يشهدون شهادة الزور فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وعن قتادة مجالس الباطل وعن ابن الحنفية اللهو والغناء، وعن مجاهد أعياد المشركين، ثم عطف عليه بما هو أعم منه بقوله تعالى :﴿وإذا مروا باللغو﴾ أي : الذي ينبغي أن يطرح من الكلام القبيح وغيره ﴿مروا كراماً﴾ أي : آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر إن تعلق بهم أمر أو نهي إشارة أو عبارة على حسب ما يرون نافعاً، فإن لم يتعلق بهم ذلك كانوا معرضين عنه مكرمين أنفسهم عن الوقوف عليه والخوض فيه لقوله تعالى :﴿وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين﴾ (القصص، ٥٥)، ومن ذلك الإغضاء عن الفواحش والصفح عن الذنوب والكناية عما ما يستهجن التصريح به، وعن الحسن لم تشقهم المعاصي، وقيل : إذا سمعوا من الكفار الأذى أعرضوا عنه، ثم ذكر الصفة الثامنة بقوله تعالى :
﴿والذين إذا ذكروا﴾ أي : ذكرهم غيرهم كائناً من كان لأنهم يعرفون الحق بنفسه لا بقائله ﴿بآيات ربهم﴾ أي : الذي وفقهم ليذكر إحسانه إليهم في حسن تربيته لهم بالاعتبار بالآيات المرئية والمسموعة ﴿لم يخرّوا﴾ أي : لم يسقطوا ﴿عليها صماً﴾ أي : غير واعين لها ﴿وعمياناً﴾ أي : غير متبصرين بما فيها كمن لا يسمع ولا يبصر كأبي جهل والأخنس بن شريق بل خروا سامعين بآذان واعية مبصرين بعيون راعية، فالمراد من النفي نفي الحال وهي : صماً وعمياناً دون الفعل وهو الخرور، فالمراد نفي القيد دون المقيد كما تقول : لا يلقاني زيد مسلماً هو نفي للسلام لا للقاء، الصفة التاسعة المذكورة في قوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٧
والذين يقولون﴾
أي : علماً منهم بعد اتصافهم بجميع ما مضى أنهم أهل للإمامة ﴿ربنا هب لنا من أزواجنا﴾ اللاتي قرنتهن بنا كما فعلت بنبيك محمد ﷺ فمدحت أزواجه في كلامك القديم، وجعلت مدحهن يتلى على تعاقب الأزمان والسنين
٣٧
﴿وذرياتنا قرة أعين﴾ لنا بأن نراهم مطيعين لك ولا شيء أسر للمؤمن من أن يرى حبيبه يطيع الله تعالى، وعن محمد بن كعب ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده يطيعون الله، وعن ابن عباس هو الولد إذا رآه يكتب الفقه وخصوا الأزواج والذرية بذلك ؛ لأن الأقربين أولى بالمعروف.
تنبيه : من في قوله تعالى من أزواجنا يحتمل أن تكون بيانية كأنه قيل : هب لنا قرة أعين، ثم بينت القرة وفسرت بقوله : من أزواجنا وذرياتنا، ومعناه أن اجعلهم لهم قرة أعين وهو من قولهم رأيت منك أسداً أي : أنت أسد، وأن تكون ابتدائية على معنى هب لنا من جهتهم ما تقر به عيوننا من طاعة وإصلاح وأتوا بجمع القلة في أعين ؛ لأن المتقين الذين يفعلون الطاعة ويسرون بها قليلون في جنب العاصين، وقيل : سألوا أن يلحق الله بهم أزواجهم وذريتهم في الجنة ليتم لهم سرورهم ووحد القرّة لأنها مصدر، وأصلها من البرد لأن العرب تتأذى من الحر وتتروح إلى البرد وتذكر قرة العين عند السرور وسخنة العين عند الحزن ويقال : دمع العين عند السرور بارد وعند الحزن حار، وقال الأزهري : معنى قرة العين أن يصادف قلبه من يرضاه فتقر عينه عن النظر إلى غيره، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص بألف بعد الياء على الجمع والباقون بغير ألف على الإفراد ﴿واجعلنا للمتقين إماماً﴾ أي : أئمة يقتدون بنا في أمر الدين بإضافة العلم والتوفيق للعمل فاكتفى بالواحد لدلالته على الجنس ولعدم اللبس كقوله تعالى :﴿ثم يخرجكم طفلاً﴾ (غافر، ٦٧)
أو أرادوا واجعل كل واحد منا أو أرادوا جمع آم كصائم وصيام أو أرادوا اجعلنا إماماً واحداً لاتحادنا واتفاق كلمتنا، وعن بعضهم في الآية ما يدل على أن الرياسة في الدين يحسن أن تطلب ويرغب فيها، وقال الحسن : نقتدي بالمتقين ويقتدي المتقون بنا، وقيل : هذا من المقلوب، أي : واجعل المتقين لنا إماماً واجعلنا مؤتمين مقتدين بهم، وهو قول مجاهد، وقيل : نزلت هذه الآية في العشرة المبشرين بالجنة، ولما بين تعالى صفات المتقين المخلصين بين بعده إحسانه إليهم بقوله تعالى :


الصفحة التالية
Icon