يزيد في الخلق ما يشاء} أي : يزيد في خلق الأجنحة وفي غيره ما تقتضيه مشيئته، والأصل : الجناحان ؛ لأنهما بمنزلة اليدين، ثم الثالث والرابع زيادة على الأصل وذلك أقوى للطيران وأعون عليه، فإن قيل : قياس الشفع من الأجنحة أن يكون في كل شق نصفه فما صورة الثلاثة ؟
أجيب : بأن الثالث لعله يكون في وسط الظهر بين الجناحين يمدّهما بقوة. أو لعله لغير الطيران، قال الزمخشري : فقد مرّ بي في بعض الكتب أن صنفاً من الملائكة لهم ستة أجنحة فجناحان يلفون بهما أجسادهم، وجناحان يطيرون بهما في الأمر من أمور الله تعالى، وجناحان مرخيان على وجوههم حياء من الله تعالى انتهى.
وروى ابن ماجة أن رسول الله ﷺ قال :"رأيت جبريل عند سدرة المنتهى وله ستمائة جناح ينثر من رأسه الدر والياقوت"، وروي أنه عليه السلام :"سأل جبريل أن يتراءى في صورته فقال : إنك لن تطيق ذلك فقال : إني أحب أن تفعل فخرج رسول الله ﷺ في ليلة مقمرة فأتاه جبريل في صورته فغشي على رسول الله ﷺ ثم أفاق وجبريل عليه السلام مسنده، وإحدى يديه على صدره والأخرى بين كتفيه فقال : سبحان الله ما كنت أرى أن شيئاً من الخلق هكذا فقال جبريل : فكيف لو رأيت إسرافيل عليه السلام له اثنا عشر ألف جناح جناح منها بالمشرق، وجناح بالمغرب وإن العرش على كاهله وإنه ليتضاءل الأحايين لعظمة الله تعالى حتى يعود مثل الوصع، وهو العصفور الصغير".
٣٨٣
وروي عن رسول الله ﷺ في قوله تعالى ﴿يزيد في الخلق ما يشاء﴾ وهو الوجه الحسن والصوت الحسن والشعر الحسن، وقيل : هو الخط الحسن، وعن قتادة : الملاحة في العينين، والآية كما قال الزمخشري : مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق من طول قامة واعتدال صورة وتمام في الأعضاء وقوة في البطش، ومتانة في العقل وجزالة في الرأي وجراءة في القلب وسماحة في النفس، وذلاقة في اللسان، ولباقة في التكلم وحسن تأنَ في مزاولة الأمور وما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف.
ثم علَّل تعالى ذلك كله بقوله مؤكداً لأجل إنكارهم البعث ﴿إن الله﴾ أي : الجامع لجميع أوصاف الكمال ﴿على كل شيء قدير﴾ وتخصيص بعض الأشياء دون بعض إنما هو من جهة الإرادة، قال أبو جعفر بن الزبير : لما أوضحت سورة سبأ أنه سبحانه مالك السموات والأرض ومستحق الحمد في الدنيا والآخرة أوضحت هذه السورة أن ذلك خلقه كما هو ملكه، وأنه الأهل للحمد والمستحق إذ الكل خلقه وملكه، وتجردت سورة سبأ لتعريف العباد بعظيم ملكه سبحانه وتجردت هذه للتعريف بالاختراع والخلق.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٨٢
ولما وصف سبحانه نفسه المقدسة بالقدرة الكاملة دلَّ على ذلك بما يشاهده كل أحد في نفسه من السعة والضيق مع العجز عن دفع شيء من ذلك أو اقتناصه، وقال مستأنفاً أو معللاً مستنتجاً :
﴿ما﴾ أي : مهما فهي شرطية ﴿يفتح الله﴾ أي : الذي لا يكافئه شيء ﴿للناس﴾ لأن كل ما في الوجود لأجلهم ﴿من رحمة﴾ أي : من الأرزاق الحسية والمعنوية، من اللطائف والمعارف التي لا تدخل تحت حصر قلّت أو كثرت فيرسلها ﴿فلا ممسك لها﴾ أي : الرحمة بعد فتحه كما يعلمه كل أحد من نفسه من أنه إذا حصل له خير لا يعدمه من يود أنه لم يحصل، ولو قدر على إزالته لأزاله ولا يقدر على تأثير ما فيه ﴿وما يمسك فلا مرسل له﴾ يطلقه، واختلاف الضميرين، لأن الموصول الأول مفسر بالرحمة، والثاني مطلق يتناولها والغضب وفي ذلك إشعار بأن رحمته سبقت غضبه.
ولما كان ربما ادعى أحد فجوراً حال إمساك الرحمة أو النعمة أنه هو الممسك قال تعالى ﴿من بعده﴾ أي : إمساكه وإرساله ﴿وهو﴾ أي : هو فاعل ذلك، والحال أنه هو وحده ﴿العزيز﴾ أي : القادر على الإمساك والإرسال الغالب على كل شيء، ولا غالب له ﴿الحكيم﴾ أي : الذي يفعل في كل من الإمساك والإرسال وغيرهما ما يقتضيه علمه به ويتقن ما أراده على قوانين الحكمة فلا يستطاع نقض شيء منه.
ولما بيَّن بما يشاهده كل أحد في نفسه أنه المنعم وحده أمر بذكر نعمته بالاعتراف أنها منه، فإن الذكر يعود إلى الشكر وهو قيد الموجود وصيد المعدوم المفقود قال :
﴿يا أيها الناس﴾ أي : الجميع ؛ لأن جميعهم مغمورون في نعمة الله تعالى، وعن ابن عباس يريد يا أهل مكة ﴿اذكروا﴾ بالقلب واللسان ﴿نعمت الله﴾ أي : الذي لا منعم في الحقيقة سواه ﴿عليكم﴾ أي : في دفع ما دفع عنكم من المحن وصنع ما صنع لكم من المنن لتشكروه ولا تكفروه.
تنبيه :﴿نعمت﴾ هنا مجرورة في الرسم وقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء، والباقون بالتاء، وإذا وقف الكسائي أمال الهاء.
ولما أمر بذكر نعمته أكد التعريف بأنها منه وحده على وجه بين عزته وحكمته بقوله تعالى
٣٨٤


الصفحة التالية
Icon