منبهاً لمن غفل موبخاً لمن جحد ورادَّاً على أهل القدر الذين يدعون أنهم يخلقون أفعالهم ومنبهاً على نعمة الإيجاد الأول ﴿هل من خالق﴾ أي : للنعم وغيرها ﴿غير الله﴾ أي : فليس لغيره في ذلك مدخل يستحق أن يشرك به، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الراء نعتاً لخالق على اللفظ ومن خالق مبتدأ مزاد فيه من، والباقون بالرفع وفيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه خبر المبتدأ، والثاني : أنه صفة لخالق على الموضع والخبر إما محذوف وإما يرزقكم. والثالث : أنه مرفوع باسم الفاعل على جهة الفاعلية ؛ لأن اسم الفاعل قد اعتمد على أداة الاستفهام.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٨٢
ولما كان جواب الاستفهام قطعاً لا بل هو الخالق وحده قال منبهاً على نعمة الإبقاء الأول بقوله تعالى :﴿يرزقكم﴾ أي : وحده فنعمة الله تعالى مع كثرتها منحصرة في قسمين : نعمة الإيجاد، ونعمة الإبقاء.
ولما كانت كثرة الرزق كما هو مشاهد مع وحدة المنبع أدل على العظمة قال ﴿من السماء﴾ أي : بالمطر وغيره ﴿والأرض﴾ أي : بالنبات وغيره.
ولما بين تعالى أنه الرازق وحده قال ﴿لا إله إلا هو فأنىَّ تُؤفكون﴾ أي : من أين تصرفون عن توحيده مع إقراركم بأنه الخالق الرازق وتشركون المنحوت بمن له الملكوت.
ولما بين تعالى الأصل الأول وهو التوحيد ذكر الأصل الثاني وهو الرسالة بقوله تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٨٢
﴿وإن يكذبوك﴾ أي : يا أشرف الخلق في مجيئك بالتوحيد والبعث والحساب والعقاب وغير ذلك ﴿فقد كذبت رسل من قبلك﴾ في ذلك، فإن قيل : فما وجه صحة جزاء الشرط ومن حق الجزاء أن يعقب الشرط وهذا سابق له ؟
أجيب : بأن معناه وإن يكذبوك فتأس بتكذيب الرسل من قبلك فوضع ﴿فقد كذبت رسل من قبلك﴾ موضع "فتأس" استغناء بالسبب عن المسبب أعني بالتكذيب عن التأسي، فإن قيل : ما معنى التنكير في رسل ؟
أجيب : بأن معناه فقد كذبت رسل أي : رسل ذوو عدد كثير وأولو آيات ونذر وأهل أعمار طوال، وأصحاب صبر وعزم وما أشبه ذلك، وهذا أسلى له وأحث على المصابرة.
قال القشيري : وفي هذا إشارة للحكماء وأرباب القلوب مع العوام والأجانب من هذه الطريقة فإنهم لا يقبلون منهم إلا القليل، وأهل الحقائق أبداً منهم في مقاساة الأذية، والعوام أقرب إلى هذه الطريقة من القراء المتعنتين.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٨٥
ثم بين من حيث الإجمال أن المكذِّب في العذاب، وأن المكذَّب له الثواب بقوله تعالى :﴿وإلى الله﴾ أي : وحده ؛ لأن له الأمور كلها ﴿ترجع الأمور﴾ أي : في الآخرة فيجازيكم وإياهم على الصبر والتكذيب.
ثم بين تعالى الأصل الثالث وهو الحشر بقوله تعالى :
﴿يا أيها الناس﴾ ولما كانوا ينكرون البعث أكد قوله تعالى ﴿إن وعد الله﴾ أي : الذي له صفات الكمال بكل ما وعد به من البعث وغيره ﴿حق﴾ أي : ثابت لا خلف فيه، وقد وعد أنه يردكم إليه في يوم تنقطع فيه الأسباب ويعرض عن الأحساب و الأنساب ﴿فلا تغرنكم﴾ أي : بأنواع الخداع من اللهو والزينة ﴿الحياة الدنيا﴾ فإنه لا يليق بذي همة علية اتباع الدنيء والرضا بالدون الزائل عن العالي الدائم ﴿ولا يغرنكم بالله﴾ أي : الذي لا يخلف الميعاد وهو الكبير المتعال ﴿الغرور﴾ أي : الذي لا يصدق في شيء وهو الشيطان العدو.
٣٨٥
ولذلك استأنف قوله تعالى مظهراً في موضع الإضمار :
﴿إن الشيطان﴾ أي : المحترق بالغضب البعيد عن الخبر ﴿لكم﴾ أي : خاصة ﴿عدو﴾ فهو في غاية الفراغ لأذاكم بتصويب مكايده كلها إليكم، وبما سبق له مع أبيكم آدم عليه السلام بما وصل أذاه إليكم، وأيضاً من عادى أباك فقد عاداك فاجتهدوا في الهرب منه ولا توالوه كما قال تعالى ﴿فاتخذوه﴾ أي : بغاية جهدكم ﴿عدواً﴾ أي : في عقائدكم وأفعالكم ولا يوجدنَّ منكم إلا ما يدل على معاداته ومناصبته في سركم وجهركم. قال القشيري : ولا تقوى على عداوته إلا بدوام الاستعانة بالرب، فإنه لا يغفل عن عداوتك فلا تغفل أنت عن مولاك لحظة.
ثم علل عداوته بقوله ﴿إنما يدعو حزبه﴾ أي : الذين يوسوس لهم فيعرضهم لاتباعه والإعراض عن الله تعالى ﴿ليكونوا﴾ باتباعه كوناً راسخاً ﴿من أصحاب السعير﴾ وهذا غرضه لا غرض له سواه ولكنه يجتهد في تعمية ذلك عنهم بأن يقرر في نفوسهم جانب الرجاء وينسيهم جانب الخوف، ويريهم أن التوبة في أيديهم ويسّوف لهم بها بالفسحة في الأمل والإبعاد في الأجل للإفساد في العمل، والرحمن إنما يدعو عباده ليكونوا من أهل النعيم كما قال تعالى ﴿والله يدعو إلى دار السلام﴾ (يونس : ٢٥)
ثم بين تعالى ما حال حزب الشيطان بقوله تعالى :


الصفحة التالية
Icon