ويقال لكل أهل عصر أمة، والمراد ههنا أهل العصر، فإن قيل : كم من أمة في الفترة بين عيسى ومحمد ﷺ لم يخل فيها نذير، أجيب : بأن آثار النذارة إذا كانت باقية لم تخل من نذير إلى أن تندرس وحين اندرست آثار نذارة عيسى عليه السلام بعث الله تعالى محمداً ﷺ فإن قيل : كيف اكتفى بذكر النذير عن البشير في آخر الآية بعد ذكرهما ؟
أجيب : بأنه لما كانت النذارة مشفوعة من البشارة لا محالة دلّ ذكرها على ذكرها، لا سيما وقد اشتملت الآية على ذكرهما، أو لأن الإنذار هو المقصود والأهم من البعثة.
﴿وإن يكذبوك﴾ أي : أهل مكة ﴿فقد كذب الذين من قبلهم﴾ أي : ما أتتهم به رسلهم عن الله تعالى ﴿جاءتهم﴾ أي : الأمم الخالية ﴿رسلهم بالبينات﴾ أي : الآيات الواضحات والدلالة على صحة الرسالة من المعجزات وغيرها ﴿وبالزبر﴾ أي : الأمور المكتوبة كصحف إبراهيم عليه السلام ﴿وبالكتاب﴾ أي : جنس الكتاب كالتوراة والإنجيل ﴿المنير﴾ أي : الواضح في نفسه الموضح لطريق الخير والشر، كما أنك أتيت قومك بمثل ذلك وإن كانت طريقتك أوضح وأظهر، وكتابك أنور وأبهر وأظهر وأشهر، وفي هذا تسلية للنبي ﷺ حيث علم أن غيره كان مثله في تكذيبه وكان محتملاً لأذى القوم.
تنبيه : لما كانت هذه الأشياء في جنسهم أسند المجيء بها إليهم إسناداً مطلقاً وإن كان بعضها في جميعهم وهي البينات وبعضها في بعضهم وهي الزبر والكتاب.
ولما سلاه الله تعالى هدد من خالفه وعصاه بما فعل في تلك الأمم الماضية بقوله تعالى :
﴿ثم أخذت﴾ أي : بأنواع الأخذ ﴿الذين كفروا﴾ أي : ستروا تلك الآيات المنيرة بعد طول صبر الرسل عليهم الصلاة والسلام عليهم ودعائهم لهم ﴿فكيف كان نكير﴾ أي : إنكاري عليهم بالعقوبة والإهلاك أي : هو واقع موقعه.
تنبيه : أثبت ورش الياء بعد الراء في الوصل دون الوقف، والباقون بغير ياء وقفاً ووصلاً.
ولما ذكر تعالى الدلائل ولم ينتفعوا قطع الكلام معهم والتفت إلى غيرهم بقوله تعالى :
﴿ألم تر﴾ أي : تعلم أي : أيها المخاطب ﴿أن الله﴾ أي : الذي له جميع صفات الكمال ﴿أنزل من السماء ماء﴾ كما أن السيد إذا نصح بعض عبيده ولم ينزجر يقول لغيره : اسمع ولا تكن مثل هذا ويكرر ما ذكره للأول، ويكون فيه إشعار بأن الأول فيه نقيصة لا يصلح للخطاب فيتنبه له ويدفع عن نفسه تلك النقيصة، وأيضاً فلا يخرج إلى كلام أجنبي عن الأول بل يأتي بما يقاربه ؛ لئلا يسمع الأول كلام الآخر فيترك التفكر فيما كان وقوله تعالى ﴿فأخرجنا﴾ أي : بما لنا من القدرة والعظمة ﴿به﴾ أي : بالماء ﴿ثمرات﴾ أي : متعددة الأنواع، فيه التفات من الغيبة إلى التكلم وإنما كان ذلك ؛ لأن المنة بالإخراج أبلغ من إنزال الماء وقوله تعالى :﴿مختلفاً﴾ نعت لثمرات وقوله تعالى :﴿ألوانها﴾ فاعل به، ولولا ذلك لأنث مختلفاً، ولكنه لما أسند إلى جمع تكسير غير عاقل
٣٩٧
جاز تذكيره، ولو أنث فقيل : مختلفة كما تقول : اختلفت ألوانها لجاز أي : مختلفة الأجناس من الرمان والتفاح والعنب وغيرها مما لا يحصر أو الهيئات من الحمرة والصفرة والخضرة ونحوها، فالذي قدر على المفاوتة بينها وهي من ماء واحد لا يستبعد عليه أن يجعل الدلائل بالكتاب وغيره نوراً لشخص وعمى لآخر.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٩٥
ولما ذكر تعالى تنوع ما من الماء وقدمه ؛ لأنه الأصل في التكوين أتبعه التكوين من التراب الذي هو أيضاً شيء واحد بقوله تعالى ذاكراً ما هو أصلب الأرض وأبعدها عن قابلية التكوين :﴿ومن الجبال جدد﴾ قال الجلال المحلّي رحمه الله تعالى : جمع جدة : طريق في الجبل وغيره وقال الزمخشري : الجدد الخطوط والطرائق، وقال أبو الفضل : الجدة ما تخالف من الطرائق لون ما يليها، ومنه جدة الحمار للخطة السوداء على ظهره، وقد يكون للظبي جدتان مسكيتان تفصلان بين لوني ظهره وبطنه ﴿بيض وحمر﴾ وصفر وقوله تعالى ﴿مختلف﴾ صفة لجدد وقوله تعالى ﴿ألوانها﴾ فاعل به كما مر في نظيره، ويحتمل معنيين : أحدهما : أن البياض والحمرة يتفاوتان بالشدة والضعف فرب أبيض أشد من أبيض وأحمر أشد من أحمر فنفس البياض مختلف وكذا الحمرة، فلذلك جمع ألوانها فيكون من باب المشكك. والثاني : أن الجدد كلها على لونين بياض وحمرة والبياض والحمرة وإن كانا لونين إلا أنهما جمعا باعتبار محلهما.


الصفحة التالية
Icon