وقوله تعالى ﴿وغرابيب سود﴾ فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه معطوف على حمر عطف ذي لون على ذي لون. ثانيها : أنه معطوف على بيض. ثالثها : واقتصر عليه الجلال المحلي أنه معطوف على جدد أي : صخور شديدة السواد قال الجلال المحلي : يقال كثيراً : أسود غربيب، وقليلاً غربيب أسود، وقال البغوي : أي : سود غرابيب على التقديم والتأخير يقال : أسود غربيب أي : شديد السواد تشبيهاً بلون الغراب أي : طرائق سود، وعن عكرمة : هن الجبال الطوال السود، وقال الزمخشري : الغربيب تأكيد للأسود، ومن حق التوكيد أن يتبع المؤكد كقولك : أصفر فاقع، ووجهه أن يضمر المؤكد قبله فيكون الذي بعده مفسراً لما أضمر كقوله النابغة الجعدي :
*والمؤمن العائذات الطير تمسحها ** ركبان مكة بين الغيل والسغد*
هما موضعان والمؤمن : اسم الله وهو مجرور بالقسم والعائذات : منصوب بالمؤمن والمراد بها : الحمام لما عاذت بمكة والتجأت إليها حرم التعرض لها، والطير منصوب بالبدل أو بعطف البيان، ووجه الاستدلال بذلك : أن الطير دال على المحذوف وهو مفعول لمؤمن والعائذات الطير، قال أبو حيان : وهذا لا يصح إلا على مذهب من يجوز حذف المؤكد، ومن النحويين من منعه وهو اختيار ابن مالك، ورد عليه بأن هذا ليس هو التأكيد المختلف في حذف مؤكده ؛ لأن هذا من باب الصفة والموصوف ومعنى تسميه الزمخشري له توكيداً من حيث إنه لا يفيد معنى زائداً وإنما يفيد المبالغة والتوكيد في ذلك اللون، والنحويون قد سموا الوصف إذا لم يفد غير الأول توكيداً فقالوا : وقد يجيء لمجرد التوكيد نحو قوله تعالى ﴿نفخة واحدة﴾ (الحاقة : ١٣)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٩٥
و﴿إلهين اثنين﴾ (النحل : ٥١)
والتوكيد المختلف في حذف مؤكده، إنما هو في باب التوكيد الصناعي،
٣٩٨
ومذهب سيبويه جوازه، وقال ابن عادل : والأولى فيه أن يسمى توكيداً لفظياً إذ الأصل سود غرابيب سود.
ولما ذكر تعالى ما الأغلب فيه الماء مما استحال إلى أمر آخر بعيد من الماء وأتبعه التراب الصرف ختم بما الأغلب فيه التراب مما استحال إلى ما هو في غاية البعد من التراب فقال :
﴿ومن الناس والدواب﴾ ولما كانت الدابة في الأصل اسماً لما دبَّ على الأرض ثم غلب إطلاقه على ما يركب قال :﴿والأنعام﴾ ليعم الكل صريحاً ﴿مختلف ألوانه﴾ أي : ألوان ذلك البعض الذي أفهمته من ﴿كذلك﴾ أي : مثل الثمار والأراضي منه ما هو ذو لون ومنه ما هو ذو لونين أو أكثر.
ولما قال تعالى ﴿ألم تر﴾ بمعنى ألم تعلم أن الله أنزل من السماء ماء وعدد آيات الله وأعلام قدرته وآثار صنعه وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس، وما يستدل به عليه وعلى صفاته من أنه فاعل بالاختيار فهو يفعل ما يشاء قال تعالى :﴿إنما يخشى الله﴾ أي : الذي له جميع صفات الكمال ﴿من عباده العلماء﴾ قال ابن عباس رضي الله عنه : يريد إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزتي وسلطاني، فالخشية بقدرة معرفة المخشي، والعالم يعلم الله فيخافه ويرجوه، وهذا دليل على أن العالم أعلى درجة من العابد لقوله تعالى :﴿إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾ (الحجرات : ١٣)
بين تعالى أن الكرامة بقدر التقوى، والتقوى بقدر العلم لا بقدر العمل، فمن ازداد منه علماً ازداد منه خشية وخوفاً، ومن كان علمه به أقل كانت خشيته أقل، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام :"إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية" وقال ﷺ "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً".
وقال مسروق : كفى بالمرء علماً أن يخشى، وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعمله، وقال رجل للشعبي : أفتني أيها العالم فقال له : العالم من خشي الله تعالى، قال السهروردي في الباب الثالث من معارفه : فينتفي العلم عمن لا يخشى الله تعالى كما إذا قال إنما يدخل الدار بغدادي فينتفي دخول غير البغدادي الدار، وقيل : نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وقد ظهرت عليه الخشية حتى أثرت فيه، فإن قيل : هل يختلف المعنى إذا قدم المفعول في هذا الكلام أو أخر ؟
أجيب : بأنه يختلف فإنك إذا قدمت اسم الله وأخرت العلماء كان المعنى إن الذين يخشون الله من بين عباده هم العلماء دون غيرهم، فإذا عملت على العكس انقلب المعنى إلى أنهم لا يخشون إلا الله كقوله تعالى ﴿ولا يخشون أحداً إلا الله﴾ (الأحزاب : ٣٩)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٩٥
وهما معنيان مختلفان.
تنبيه : رسم العلماء بالواو وقوله تعالى ﴿إن الله﴾ أي : المحيط بالجلال والإكرام ﴿عزيز﴾ أي : غالب على جميع أمره ﴿غفور﴾ أي : لذنوب من أراد من عباده تعليل لوجوب الخشية لدلالته على أنه معاقب للمصرّ على طغيانه غفور للتائب عن عصيانه، والمعاقب والمثيب حقه أن يخشى.
ولما بين سبحانه العلماء بالله وخشيتهم وكرامتهم بسب خشيتهم ذكر العالمين بكتاب الله العاملين بما فيه بقوله تعالى :
﴿إن الذين يتلون كتاب الله﴾ أي : يداومون على تلاوته وهي شأنهم
٣٩٩