﴿إن الله﴾ أي : الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿عالم غيب السموات والأرض﴾ لا تخفى عليه خافية فلا يخفى عليه تعالى أحوالهم وقوله تعالى ﴿إنه عليم بذات الصدور﴾ تعليل له ؛ لأنه إذا علم مضمرات الصدور قبل أن يعلمها أربابها حتى تكون غيباً محضاً كان أعلم بغيره، ويعلم أنكم لو مدّت أعماركم لم ترجعوا عن الكفر أبداً ولو رددتم لعدتم لما نهيتم عنه وإنه لا مطمع في صلاحكم.
ولما كان من أنشأ شيئاً كان أعلم به قال تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٠٠
﴿هو﴾ أي : وحده لا شركاؤكم ولا غيرهم ﴿الذي جعلكم﴾ أيها الناس ﴿خلائف في الأرض﴾ أي : يخلف بعضكم بعضاً، وقيل : جعلكم أمة واحدة خلفت من قبلها ورأت فيمن قبلها ما ينبغي أن يعتبر به، وقال القشيري : أهل كل عصر خليفة عمن تقدّمهم فمن قوم هم لسلفهم جمال ومن قوم هم أرذال وأسافل.
تنبيه : خلائف جمع خليفة وهو الذي يقوم بعد الإنسان بما كان قائماً به والخلفاء : جمع خليفة قاله الأصبهاني ﴿فمن كفر فعليه كفره﴾ أي : وبال كفره ﴿ولا﴾ أي : والحال أنه لا ﴿يزيد الكافرين﴾ أي : المغطين للحق ﴿كفرهم﴾ أي : الذي هم ملتبسون به ظانون أنه يسعدهم وهم راسخون فيه غير منتقلين عنه ﴿عند ربهم﴾ أي : المحسن إليهم ﴿إلا مقتاً﴾ أي : غضباً ؛ لأن الكافر السابق كان ممقوتاً ﴿ولا يزيد الكافرين﴾ أي : العريقين في صفة التغطية للحق ﴿كفرهم إلا خساراً﴾ أي : للآخرة ؛ لأن العمر كرأس مال من اشترى به رضا الله تعالى ربح، ومن اشترى به سخط الله تعالى خسر.)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٠٦
ولما بين أنه سبحانه هو الذي استخلفهم أكد بيان ذلك عندهم بأمره ﷺ بما يضطرهم إلى الاعتراف بقوله تعالى :
﴿قل﴾ أي : لهم ﴿أرأيتم﴾ أي : أخبروني ﴿شركاءكم﴾ أضافهم إليهم ؛ لأنهم وإن كانوا جعلوهم شركاءه لم ينالوا شيئاً من شركته ؛ لأنهم ما نقصوه شيئاً من ملكه وإنما شاركوا العابدين في أموالهم بالسوائب وغيرها وفي أعمالهم فهم شركاؤهم بالحقيقة لا شركاؤه، ثم بين المراد من عدّهم لهم شركاء بقوله تعالى :﴿الذين تدعون﴾ أي : تعبدون ﴿من دون الله﴾
٤٠٦
أي : غيره وهم الأصنام الذين زعمتم أنهم شركاء الله تعالى ﴿أروني﴾ أي : أخبروني ﴿ماذا﴾ أي : الذي أو أي شيء ﴿خلقوا من الأرض﴾ أي : لتصح لكم دعوى الشركة فيهم وإلا فادعاؤكم ذلك فيهم كذب محض وإنكم تدعون أنكم أبعد الناس منه في الأمور الهينة فكيف بمثل هذا ﴿أم لهم شرك﴾ أي : شركة مع الله تعالى وإن قلت ﴿في السموات﴾ أي : أروني ماذا خلقوا لكم من السموات فالآية من الاحتباك حذف أولاً الاستفهام عن الشركة في الأرض لدلالة مثله في السماء ثانياً عليه، وحذف الأمر بالإراءة ثانياً له لدلالة مثله أولاً عليه.
﴿أم آتيناهم كتاباً﴾ ينطق على أنا اتخذنا شركاء ﴿فهم﴾ الأحسن في هذا الضمير أن يعود على الشركاء لتناسق الضمائر، وقيل : يعود على المشركين قاله مقاتل فيكون التفاتاً من خطاب إلى غيبة ﴿على بينة﴾ أي : حجة ﴿منه﴾ بأن لهم معي شركة، ولما كان التقدير لا شيء لهم من ذلك قال تعالى منبهاً على ذميم أحوالهم وسفه آرائهم وخسة هممهم ونقصان عقولهم ﴿بل إن﴾ أي : ما ﴿يعد الظالمون﴾ أي : الواضعون الأشياء في غير موضعها ﴿بعضهم بعضاً﴾ أي : الاتباع للمتبوعين بأن شركاءهم تقربهم إلى الله تعالى زلفى، وأنها تشفع وتضر وتنفع ﴿إلا غروراً﴾ أي : باطلاً.
ولما بين تعالى حقارة الأصنام بين عظمته سبحانه بقوله تعالى :
﴿إن الله﴾ أي : الذي له جميع صفات الكمال ﴿يمسك السموات﴾ أي : على كبرها وعلوها ﴿والأرض﴾ أي : على سعتها وبعدها عن التماسك على ما تشاهدون، وقوله تعالى ﴿أن تزولا﴾ أي : برجة عظيمة وزلزلة كبيرة يجوز أن يكون مفعولاً من أجله أي : كراهة أن تزولا، وقيل : لئلا تزولا، ويجوز أن يكون مفعولاً ثانياً على إسقاط الخافض أي : يمنعهما من أن تزولا، ويجوز أن يكون بدل اشتمال أي : يمنع زوالهما ؛ لأن ثباتهما على ما هما عليه على غير القياس لولا شامخ قدرته وباهر عزته وعظمته، فإن ادعيتم عناداً أن شركاءكم لا يقدرون على الخلق لعلة من العلل فادعوهم لإزالة ما خلق الله تعالى.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٠٦