ولما كان في هذا دليل على أنهما حادثتان زائلتان أتبعه ما هو أبين منه بقوله تعالى : معبراً بأداة الإمكان ﴿ولئن﴾ لام قسم ﴿زالتا﴾ أي : بزلزلة خراب أو غير ذلك ﴿إن﴾ أي : ما ﴿أمسكهما من أحد من بعده﴾ جواب القسم الموطأ له بلام القسم وجواب الشرط محذوف يدل عليه جواب القسم، ولذلك كان فعل الشرط ماضياً، وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري : والجملة سدت مسد الجوابين فيه تجوز، فالمراد بسدهما مسدهما أنها تدل عليهما لا أنها قائمة مقامهما إذ يلزم أن تكون معمولة وغير معمولة ؛ لأنها باعتبار جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وباعتبار جواب الشرط لها محل، ومن في ﴿من أحد﴾ مزيدة لتأكيد الاستغراق وفي ﴿من بعده﴾ لابتداء الغاية، والمعنى : أحد سواه أو من بعد الزوال ﴿إنه كان﴾ أي : أزلاً وأبداً ﴿حليماً﴾ إذ أمسكهما وكانتا جديرتين بأن تهدّا هدّاً كما قال تعالى ﴿تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً﴾ (مريم : ٩٠)
لأنه لا يستعجل إلا من يخاف الفوت فينتهز الفرصة ﴿غفوراً﴾ أي : محاء لذنوب من رجع إليه وأقبل بالاعتراف عليه فلا يعاقبه ولا يعاتبه.
ولما بلغ كفار مكة أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا : لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم :
﴿وأقسموا﴾ أي : كفار مكة ﴿بالله﴾ أي : الذي لا يقسم بغيره ﴿جهد أيمانهم﴾ أي : غاية اجتهادهم فيها ﴿لئن جاءهم نذير﴾ أي : رسول ﴿ليكونن أهدى من إحدى الأمم﴾ أي : اليهود والنصارى وغيرهم أي : آية واحدة منها لما رأوا من تكذيب بعضها بعضاً ﴿إذ قالت اليهود ليست
٤٠٧
النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء﴾
(البقرة : ١١٣)
﴿فلما جاءهم نذير﴾ أي : على ما شرطوا وزيادة وهو محمد ﷺ الذي كانوا يشهدون أنه خيرهم نفساً وأشرفهم نسباً وأكرمهم خلقاً ﴿ما زادهم﴾ أي : مجيئه شيئاً مما هم عليه من الأحوال ﴿إلا نفوراً﴾ أي : تباعداً عن الهدى ؛ لأنه كان سبباً في زيادتهم في الكفر كالإبل التي كانت نفرت من ربها فضلت عن الطريق فدعاها فازدادت بسبب دعائه نفرة فصارت بحيث يتعذر أو يتعسر ردها، فتبين أنه لا عهد لهم مع ادعائهم أنهم أوفى الناس ولا صدق عندهم مع جزمهم بأنهم أصدق الخلق، ثم علل نفورهم بقوله تعالى :
﴿استكباراً﴾ أي : طلباً لإيجاد الكبر لأنفسهم ﴿في الأرض﴾ أي : التي من شأنها السفول والتواضع والخمول فلم يكن نفورهم لأمر محمود ولا مباح، ويجوز أن يكون استكباراً بدلاً من نفوراً وأن يكون حالاً أي : حال كونهم مستكبرين قاله الأخفش.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٠٦
وقوله تعالى ﴿ومكر السيء﴾ فيه وجهان : أظهرهما : أنه عطف على استكباراً، والثاني : أنه عطف على نفوراً وهذا من إضافة الموصوف إلى صفته في الأصل إذ الأصل والمكر السيء، والبصريون يؤولونه على حذف موصوف أي : العمل السيء أي : الذي من شأنه أن يسوء صاحبه وغيره وهو إرادتهم لإهانة أمر النبي ﷺ وإطفاء نور الله عز وجل، وقال الكلبي : هو اجتماعهم على الشرك وقتل النبي صلى الله عليه وسلم
وقرأ حمزة في الوصل بهمزة ساكنة أي : بنية الوقف إشارة إلى تدقيقهم المكر واتقانه وإخفائه جهدهم، والباقون بهمزة مكسورة، وإذا وقف حمزة أبدل الهمزة ياء وأدغم الياء الأولى في الياء الثانية، ووقف الباقون بهمزة ساكنة ﴿ولا﴾ أي : والحال أنه لا ﴿يحيق﴾ أي : يحيط إحاطة لازمة خسارة ﴿المكر السيء﴾ أي : الذي هو عريق في السوء ﴿إلا بأهله﴾ أي : وإن أذى غير أهله لكنه لا يحيط بذلك الغير، فإن قيل : كثيراً ما نرى الماكر يمكر ويفيده المكر ويغلب الخصم بالمكر والآية تدل على عدم ذلك، أجيب : بأجوبة : أحدها : أن المكر في الآية هو المكر الذي مكروه مع النبي ﷺ من العزم على القتل والإخراج ولم يحق إلا بهم حيث قتلوا يوم بدر وغيره.
ثانيها : أنه عام وهو الأصح، ويدل له قول الزهري : بلغنا أن النبي ﷺ قال :"لا تمكروا ولا تعينوا ماكراً فإن الله تعالى يقول : وقرأ هذه الآية، ولا تبغوا ولا تعينوا باغياً يقول الله تعالى ﴿إنما بغيكم على أنفسكم﴾ (يونس : ٢٣)
ولا تنكثوا ولا تعينوا ناكثاً قال الله تعالى ﴿فمن نكث فإنما ينكث على نفسه﴾ (الفتح : ١٠)
ثالثها : أن الأعمال بعواقبها ومن مكر بغيره ونفذ فيه المكر عاجلاً في الظاهر فهو في الحقيقة هو الفائز والماكر هو الهالك كمثل راحة الكافر ومشقة المسلم في الدنيا ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى ﴿فهل ينظرون﴾ أي : ينتظرون ﴿إلا سنت الأولين﴾ أي : سنة الله تعالى فيهم من تعذيبهم بتكذيبهم رسلهم، والمعنى : فهل ينتظرون إلا أن ينزل بهم العذاب كما نزل بمن مضى من الكفار.
ولما كان هذا النظر يحتاج إلى صفاء في اللب وذكاء في النفس عدل عن ضميرهم إلى خطاب أعلى الخلق بقوله تعالى :
﴿فلن تجد﴾ أي : في وقت من الأوقات ﴿لسنت الله﴾ أي : طريقة الملك الأعظم التي شرعها وحكم بها وهي إهلاك العاصين وإنجاء الطائعين ﴿تبديلاً﴾ أي :
٤٠٨


الصفحة التالية
Icon