وبقوله تعالى :﴿الله يجتبي إليه من يشاء﴾ (الشورى : ١٣)
إلى غير ذلك.
تنبيه : رفع بشر لانتقاض النفي المقتضي إعمال ما بإلا ثم قالوا ﴿وما أنزل الرحمن﴾ أي : العام الرحمة، فعموم رحمته مع استوائنا في عبوديته يقتضي أن يسوي بيننا في الرحمة فلا يخصكم بشيء دوننا، وأغرقوا في النفي بقولهم ﴿من شيء﴾ أي : وحي ورسالة ﴿إن﴾ أي : ما ﴿أنتم إلا تكذبون﴾ أي : في دعوى رسالة حالاً ومآلاً.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤١٧
قالوا﴾
أي : الرسل ﴿ربنا﴾ أي : الذي أحسن إلينا ﴿يعلم﴾ أي : ولهذا يظهر على أيدينا الآيات ﴿إنا إليكم لمرسلون﴾ استشهدوا بعلم الله تعالى وهو يجري مجرى القسم، وزادوا اللام المؤكدة ؛ لأنه جواب عن إنكارهم.
﴿وما علينا﴾ أي : وجوباً من قبل من أرسلنا ﴿إلا البلاغ المبين﴾ أي : المؤيد بالأدلة القطعية من الحجج القولية والفعلية بالمعجزات، وهي إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الميت وغيرهما فما كان جوابهم بعد هذا إلا أن :
﴿قالوا إنا تطيرنا﴾ أي : تشاءمنا ﴿بكم﴾ وذلك أن المطر
٤١٩
حبس عنهم فقالوا : أصابنا هذا بشؤمكم ولاستغرابهم ما ادعوه واستقباحهم له ونفرتهم عنه قالوا :﴿لئن لم تنتهوا﴾ أي : عن مقالتكم هذه ﴿لنرجمنكم﴾ أي : لنقتلنكم قال قتادة : بالحجارة، وقيل : لنشتمنكم وقيل : لنقتلنكم شر قتلة ﴿وليمسنكم منا﴾ أي : لا من غيرنا ﴿عذاب أليم﴾ كأنهم قالوا : لا نكتفي برجمكم بحجر وحجرين بل نديم ذلك عليكم إلى الموت وهو العذاب الأليم، أو يكون المراد وليمسنكم بسبب الرجم منا عذاب أليم أي : مؤلم، وإن قلنا : الرجم : الشتم فكأنهم قالوا : ولا يكفينا الشتم بل شتم يؤدي إلى الضرب والإيلام الحسي، وإذا فسرنا أليم بمعنى مؤلم ففعيل بمعنى مفعل قليل، ويحتمل أن يقال : هو من باب قوله تعالى ﴿عيشة راضية﴾ (الحاقة : ٢١)
أي : ذات رضا أي : عذاب ذو ألم فيكون فعيلاً بمعنى فاعل وهو كثير، ثم أجابهم المرسلون بأن :
﴿قالوا طائركم﴾ أي : شؤمكم الذي أحل بكم البلاء ﴿معكم﴾ وهو أعمالكم القبيحة التي منها تكذيبكم وكفركم فأصابكم الشؤم من قبلكم، وقال ابن عباس والضحاك : حظكم من الخير والشر، والهمزة في قوله تعالى ﴿أئن ذكرتم﴾ أي : وعظتم وخوفتم همزة استفهام وجواب الشرط محذوف أي : تطيرتم وكفرتم فهو محل الاستفهام والمراد به التوبيخ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الثانية، وأدخل قالون وأبو عمرو بينهما ألفاً، وورش وابن كثير بغير إدخال، والباقون بتحقيقهما مع عدم الإدخال.
ولما كان ذلك لا يصح أن يكون سبباً للتطير بوجه أضربوا عنه بقولهم ﴿بل﴾ أي : ليس الأمر كما زعمتم في أن التذكير بسبب التطير بل ﴿أنتم قوم﴾ أي : غركم ما آتاكم الله من القوة على القيام فيما تريدون ﴿مسرفون﴾ أي : عادتكم الخروج عن الحدود والطغيان فعوقبتم لذلك.
ولما كان السياق لأن الأمر بيد الله تعالى، فلا هادي لمن يضل ولا مضل لمن هدى فهو يهدي البعيد في البقعة والنسب إذا أراد، ويضل القريب فيهما إذا أراد وكان بعد الدار ملزوماً في الغالب لبعد النسب قدّم مكان المجيء على فاعلة بياناً لأن الدعاء نفع الأقصى ولم ينفع الأدنى فقال تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤١٧
وجاء من أقصى﴾
أي : أبعد بخلاف ما مر في القصص ولأجل هذا الغرض عدل عن التعبير بالقرية وقال ﴿المدينة﴾ لأنها أدل على الكبر المستلزم بعد الأطراف وجمع الأخلاط ولما بين الفاعل بقوله تعالى :﴿رجل﴾ بين اهتمامه بالنهي عن المكر ومسابقته إلى إزالته كما هو الواجب بقوله تعالى :﴿يسعى﴾ أي : يسرع في مشيه فوق المشي ودون العدو حرصاً على نصيحة قومه.
تنبيه : في تنكير الرجل مع أنه كان معلوماً معروفاً عند الله تعالى فيه فائدتان، الأولى : أن يكون تعظيماً لشأنه أي : رجل كامل في الرجولية، الثانية : أن يكون مفيداً ليظهر من جانب المرسلين أمر رجل من الرجال لا معرفة لهم به فلا يقال : إنهم تواطؤوا، والرجل هو حبيب النجار كان ينحت الأصنام، وقال السدي : كان قصاراً، وقال وهب : كان يعمل الحرير وكان سقيماً قد أسرع فيه الجذام وكان منزله عند أقصى باب في المدينة، وكان مؤمناً وآمن بمحمد ﷺ قبل وجوده حين صار من العلماء بكتاب الله تعالى ورأى فيه نعت محمد ﷺ وبعثته وقوله :﴿يسعى﴾ تبصير للمسلمين وهداية لهم ليبذلوا جهدهم في النصح.
ولما تشوفت النفس إلى الداعي إلى إتيانه بينه بقوله تعالى :
﴿قال﴾ واستعطفهم بقوله تعالى :﴿يا قوم﴾ وأمرهم بمجاهدة النفوس بقوله ﴿اتبعوا المرسلين﴾ أي : في عبادة الله تعالى وحده،
٤٢٠
فجمع بين إظهار دينه وإظهار النصيحة فقوله ﴿اتبعوا﴾ النصيحة وقوله ﴿المرسلين﴾ إظهار إيمانه، وقدم إظهار النصيحة على إظهار الإيمان ؛ لأنه كان ساعياً في النصيحة، وأما الإيمان فكان قد آمن من قبل وقوله ﴿يسعى﴾ دل على إردته النصح.
فإن قيل : ما الفرق بين مؤمن آل فرعون حيث قال :﴿اتبعون أهدكم﴾ (غافر : ٣٨)


الصفحة التالية
Icon