﴿إن﴾ أي : ما ﴿كانت﴾ أي : الواقعة التي عذبوا بها ﴿إلا صيحة﴾ صاحها بهم جبريل عليه السلام فماتوا عن آخرهم وأكد أمرها وحقق وحدتها بقوله تعالى :﴿واحدة﴾ أي : لحقارة أمرهم عندنا ثم زاد في تحقيرهم ببيان الإسراع في الإهلاك بقوله تعالى :﴿فإذا هم خامدون﴾ أي : ثابت لهم الخمود ما كأنهم كانت بهم حركة يوماً من الدهر شبهوا بالنار رمزاً إلى أن الحي كالنار الساطعة والميت كرمادها كما قال لبيد :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٢٣
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ** يصير رماداً بعد إذ هو ساطع*
وقال المعري :
*وكالنار الحياة فمن رماد ** أواخرها وأولها دخان*
قال المفسرون : أخذ جبريل عليه السلام بعضادتي باب المدينة ثم صاح بهم صيحة واحدة فماتوا ﴿يا حسرة على العباد﴾ أي : هؤلاء ونحوهم ممن كذبوا الرسل فأهلكوا وهي شدة التألم ونداؤها
٤٢٤
مجاز أي : هذا أوانك فاحضري، ثم بين تعالى سبب الحسرة والندامة بقوله تعالى :﴿ما يأتيهم من رسول﴾ أي رسول كان في أي وقت كان ﴿إلا كانوا به﴾ أي : بذلك الرسول ﴿يستهزؤن﴾ والمستهزئ بالناصحين المخلصين أحق أن يتحسر ويتحسر عليه، وقيل : يقول الله تعالى يوم القيامة ﴿يا حسرة على العباد﴾ حين لم يؤمنوا بالرسل.
ولما بين تعالى حال الأولين قال للحاضرين :
﴿ألم يروا﴾ أي : أهل مكة القائلين للنبي ﷺ لست مرسلاً، والاستفهام للتقرير أي : اعلموا وقوله تعالى ﴿كم﴾ خبرية بمعنى كثيراً وهو مفعول لأهلكنا تقديره : كثيراً من القرون أهلكنا وهي معمولة لما بعدها معلقة ليروا عن العمل ذهاباً بالخبرية مذهب الاستفهامية والمعنى : أما ﴿أهلكنا قبلهم﴾ كثيراً ﴿من القرون﴾ أي : الأمم، قال البغوي : والقرن أهل كل عصر سموا بذلك لاقترانهم في الوجود ﴿أنهم﴾ أي : المهلكين ﴿إليهم﴾ أي : إلى أهل مكة ﴿لا يرجعون﴾ أي : لا يعودون إلى الدنيا أفلا يعتبرون، وقيل : لا يرجعون أي : الباقون لا يرجعون إلى المهلكين بسبب ولا ولادة أي : أهلكناهم وقطعنا نسلهم ولا شك أن الإهلاك الذي يكون مع قطع النسل أتم وأعم، قال ابن عادل : والأول أشهر نقلاً. والثاني : أظهر عقلاً. وقوله تعالى :
﴿وإن﴾ نافية أو مخففة وقوله تعالى ﴿كل﴾ أي : كل الخلائق مبتدأ وقرأ ﴿لما﴾ ابن عامر وعاصم وحمزة بتشديد الميم بمعنى إلا، والباقون بالتخفيف واللام فارقة وما مزيدة وقوله تعالى ﴿جميع﴾ أي : مجموعون خبر أول ﴿لدنيا﴾ أي : عندنا في الموقف بعد بعثهم وقوله تعالى ﴿محضرون﴾ أي : للحساب خبر ثان وما أحسن قول القائل :
*ولو أنا إذا متنا تركنا ** لكان الموت راحة كل حيّ*
*ولكنا إذا متنا بعثنا ** ونسأل بعدها عن كل شيء*
ولما قال ﴿وإن كل لما جميع﴾ كان ذلك إشارة إلى الحشر فذكر ما يدل على إمكانه قطعاً لإنكارهم واستبعادهم فقال تعالى :
﴿وآية﴾ أي : علامة عظيمة ﴿لهم﴾ أي : على قدرتنا على البعث وإيجادنا له ﴿الأرض﴾ أي : هذا الجنس الذي هم منه ثم وصفها بما حقق وجه الشبه بقوله تعالى :﴿الميتة﴾ التي لا روح لها ؛ لأنه لا نبات بها أعم من أن يكون بها نبات وفنى أو لم يكن بها شيء أصلاً، ثم استأنف بيان كونها آية بقوله تعالى :﴿أحييناها﴾ أي : باختراع النبات فيها أو بإعادته بسبب المطر كما كان بعد اضمحلاله، فإن قيل : الأرض آية مطلقاً فلم خصها بهم حيث قال تعالى :﴿وآية لهم﴾ ؟
أجيب : بأن الآية تعدد وتسرد لمن لم يعرف الشيء بأبلغ الوجوه، وأما من عرف الشيء بطريق الرؤية فلا يذكر له دليل فالنبي ﷺ وعباد الله المخلصين عرفوا الله تعالى قبل الأرض والسماء فليست الأرض معرفة لهم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٢٣
تنبيه : آية خبر مقدم ولهم صفتها أو متعلقة بآية ؛ لأنها علامة والأرض مبتدأ، وأعرب أبو البقاء آية مبتدأ ولهم الخبر والأرض الميتة مبتدأ وصفة وأحييناها خبره فالجملة مفسرة لآية وبهذا بدأ ثم قال : وقيل فذكر الوجه الأول.
ولما كان إخراج الأقوات نعمة أخرى قال ﴿وأخرجنا منها حباً﴾ أي : جنس الحب كالحنطة
٤٢٥
والشعير والأرز، ثم بين عموم نفعه بقوله ﴿فمنه﴾ أي : بسبب هذا الإخراج ﴿يأكلون﴾ أي : من ذلك الحب فهو حب حقيقة تعلمون ذلك علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين لا تقدرون تدعون أن ذلك خيال سحري بوجه من الوجوه، وفي هذه الآية وأمثالها حث عظيم على تدبر القرآن واستخراج ما فيه من المعاني الدالة على جلال الله تعالى وكماله، وقد أنشد هنا الأستاذ القشيري في تفسيره وعيب على من أهمل ذلك :
*يا من تصدر في دست الإمامة في ** مسائل الفقه إملاء وتدريساً*
*غفلت عن حجج التوحيد تحكمها ** شيدت فرعاً وما مهدت تأسيساً*
ولما ذكر الزرع وهو مالا ساق له أتبعه بذكر ما له ساق بقوله :


الصفحة التالية
Icon