﴿وجعلنا﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿فيها﴾ أي : الأرض ﴿جنات﴾ أي : بساتين ﴿من نخيل وأعناب﴾ ذكر هذين النوعين لكثرة نفعهما وقدم النخل ؛ لأنه نفع كله خشبه وسعفه وليفه وخوصه وعراجينه وثمره طلعاً وبسراً ورطباً وتمراً وفيه زينة دائماً لكونه لا يسقط ورقه.
ولما كانت الجنان لا تصلح إلا بالماء قال تعالى ﴿وفجرنا﴾ أي : فتحنا سيحاً عظيماً ﴿فيها﴾ أي : الأرض ﴿من العيون﴾ شيئاً فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه أو العيون، ومن مزيدة عند الأخفش، قال البقاعي : والتعريف هنا يدل على أن الأرض مركبة على الماء فكل موضع منها صالح لأن يتفجر منه الماء ولكن الله تعالى يمنعه من بعض المواضع بخلاف الأشجار ليس فيها شيء غالب على الأرض، ففي ذلك تذكير بالنعمة في حبس الماء عن بعض الأرض ليكون موضعاً للسكن ولو شاء لفجر الأرض كلها عيوناً كما فعل بقوم نوح فأغرق أهل الأرض كلهم، وقرأ نافع وأبو عمرو وهشام وحفص برفع العين، والباقون بالكسر.
ولما كانت حياة كل شيء إنما هي بالماء أشار إلى ذلك بقوله تعالى :
﴿ليأكلوا من ثمره﴾ أي : ثمر ما ذكر وهو الجنات، وقيل : الضمير يعود على الأعناب ؛ لأنها أقرب مذكور وكان من حق الضمير أن يثنى لتقديم شيئين وهما الأعناب والنخيل إلا أنه اكتفى بذكر أحدهما، وقيل : الضمير لله على طريق الالتفات من التكلم إلى الغيبة، وقرأ حمزة والكسائي برفع الثاء والميم وهي لغة فيه أو جمع ثمار، والباقون بفتحهما.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٢٣
وقوله تعالى :﴿وما عملته أيديهم﴾ عطف على الثمر والمراد : ما يتخذ منه كالعصير والدبس مما موصولة ومن الذي عملته أيديهم ويؤيد هذا قراءة حمزة والكسائي وشعبة بحذف الهاء من عملته، وما نافية على قراءة الباقين بإثباتها أي : وجدوها معمولة ولم تعملها أيديهم ولا صنع لهم فيها، وقيل : أراد العيون والأنهار التي لم تعملها يد مخلوق مثل دجلة والفرات والنيل.
ثم لما عدد النعم أشار إلى الشكر بقوله تعالى :﴿أفلا يشكرون﴾ أي : اشكروا فهو أمر بصيغة الاستفهام أي : ادأبوا دائماً في إيقاع الشكر والدوام على تجديده في كل حين بسبب هذه النعم.
ولما أمرهم الله تعالى بالشكر وشكر الله تعالى بالعبادة وهم تركوها وعبدوا غيره وأشركوا قال تعالى :
﴿سبحان الذي خلق الأزواج﴾ أي : الأصناف والأنواع ﴿كلها﴾ أي : وغيره لم يخلق
٤٢٦
شيئاً ثم بين ذلك بقوله تعالى :﴿مما تنبت الأرض﴾ دخل فيه كل نجم وشجر ومعدن وغيره من كل ما يتولد منها ﴿ومن أنفسهم﴾ من الذكور والإناث وقوله تعالى ﴿ومما لا يعلمون﴾ يدخل فيه ما في أقطار السموات وتخوم الأرضين من المخلوقات العجيبة الغريبة.
ولما استدل تعالى بأحوال الأرض وهو المكان الكلي استدل بالليل والنهار وهو الزمان الكلي بقوله تعالى :
﴿وآية لهم الليل﴾ أي : على إعادة الشيء بعد فنائه ﴿نسلخ﴾ أي : نفصل ﴿منه النهار﴾ فإن دلالة الزمان والمكان متناسبة ؛ لأن المكان لا يستغني عنه الجواهر، والزمان لا يستغني عنه الأعراض ؛ لأن كل عرض فهو في زمان.
تنبيه : نسلخ استعارة تبعية مصرحة، شبه انكشاف ظلمة الليل بكشط الجلد من الشاة والجامع ما يعقل من ترتب أحدهما على الآخر ﴿فإذا هم﴾ أي : بعد إزالة ما للنهار الذي سلخناه من الليل ﴿مظلمون﴾ أي : داخلون في الظلام بظهور الليل الذي كان الضياء ساتراً له كما يستر الجلد الشاة، قال الماوردي : وذلك أن ضوء النهار يتداخل في الهواء فيضيء فإذا خرج منه أظلم نقله ابن الجوزي عنه، وقد أرشد السياق حتماً إلى أن التقدير : والنهار نسلخ منه الليل الذي كان ساتره وغالباً عليه فإذا هم مبصرون.
ولما ذكر الوقتين ذكر آيتيهما مبتدئاً بآية النهار بقوله تعالى :
﴿والشمس﴾ أي : التي سلخ النهار من الليل بغيبوبتها ﴿تجري لمستقر لها﴾ أي : لحد معين ينتهي إليه دورها لا تتجاوزه فشبه بمستقر المسافر إذا قطع سيره، وقيل : مستقرها بانتهاء سيرها عند انقضاء الدنيا وقيام الساعة، وقيل : إنها تسير حتى تنتهي إلى أبعد مغاربها ثم ترجع فذلك مستقرها لا تتجاوزه، وقيل : مستقرها نهاية ارتفاعها في السماء في الصيف ونهاية هبوطها في الشتاء، وقد صح عن النبي ﷺ أنه قال :"مستقرها تحت العرش" وروي أنه ﷺ قال لأبي ذر حين غربت الشمس :"تدري أين تذهب ؟
قلت : الله ورسوله أعلم قال : فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها يقال لها : ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى ﴿والشمس تجري لمستقر لها﴾".
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٢٣