ولما كان هذا الجري على نظام لا يختل على ممر السنين وتعاقب الأحقاب عظمه بقوله تعالى :﴿ذلك﴾ أي : الأمر الباهر للعقول وزاد في عظمه بصيغة التفعيل بقوله تعالى :﴿تقدير العزيز﴾ أي : الذي لا يقدر أحد في شيء من أمره على نوع مغالبة وهو غالب على كل شيء ﴿العليم﴾ أي : المحيط علماً بكل شيء الذي يدبر الأمر فيطرد على نظام عجيب ونهج بديع لا يعتريه وهن ولا يلحقه يوماً نوع خلل، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى المستقر أي : ذلك المستقر تقدير العزيز العليم.
ولما ذكر آية النهار أتبعها آية الليل بقوله تعالى :
﴿والقمر قدرناه﴾ أي : من حيث سيره ﴿منازل﴾ ثمانية وعشرين منزلاً في ثمانية وعشرين ليلة من كل شهر ويستتر ليلتين إن كان الشهر
٤٢٧
ثلاثين يوماً وليلة إن كان الشهر تسعة وعشرين يوماً، وقد ذكرنا أسامي المنازل في سورة يونس عليه السلام، فإذا صار القمر في آخر منازله دق فذلك قوله تعالى ﴿حتى عاد﴾ أي : بعد أن كان بدراً عظيماً ﴿كالعرجون﴾ من النخل وهو عود العذق ما بين شماريخه إلى منتهاه وهو منبته من النخلة رقيقاً منحنياً ثم وصفه بقوله تعالى :﴿القديم﴾ فإنه إذا عتق يبس وتقوس واصفر فيشبه القمر في رقته وصفرته في رأي العين في آخر المنازل، قال القشيري : إن القمر يبعد عن الشمس ولا يزال يتباعد حتى يعود بدراً ثم يدنو، فكلما ازداد من الشمس دنواً ازداد في نفسه نقصاناً إلى أن يتلاشى، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والقمر برفع الراء، والباقون بالنصب والرفع على الابتداء والنصب بإضمار فعل على الاشتغال، والوجهان مستويان لتقدم جملة ذات وجهين وهي قوله تعالى :﴿والشمس تجري﴾ فإن راعيت صدرها رفعت لتعطف جملة اسمية على مثلها وإن راعيت عجزها نصبت لتعطف فعلية على مثلها.
ولما قرر أن لكل منهما منازل لا يعدوها فلا يغلب ما هو آيته آية الآخر بل إذا جاء سلطان هذا ذهب سلطان ذاك وإذا جاء ذاك ذهب هذا قال تعالى :
﴿لا الشمس﴾ التي هي آية النهار ﴿ينبغي﴾ أي : يسهل ﴿لها﴾ أي : ما دام هذا الكون موجوداً على هذا الترتيب ﴿أن تدرك القمر﴾ أي : تجتمع معه في الليل فما النهار سابق الليل ﴿ولا الليل سابق النهار﴾ أي : فلا يأتي أحدهما قبل انقضاء الآخر، فالآية من الاحتباك ؛ لأنه نفى أولاً إدراك الشمس لقوتها القمر ففيه دليل على ما حذف من الثاني من نفي إدراك الشمس للقمر أي : فيغلبها وإن كان يوجد في النهار لكن من غير سلطنة فيه، بخلاف الشمس فإنها لا تكون في الليل أصلاً ونفى ثانياً سبق الليل النهار وفيه دليل على حذف سبق النهار الليل أولاً كما قدرته. ﴿وكل﴾ أي : من الشمس والقمر ﴿في فلك﴾ محيط به وهو الجسم المستدير أو السطح المستدير أو الدائرة ؛ لأن أهل اللغة على أن فلكة المغزل سميت فلكة لاستدارتها، وفلكة الخيمة هي : الخشبة المسطحة المستديرة التي توضع على رأس العمود لئلا يمزق العمود الخيمة وهي صفحة مستديرة.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٢٣
فإن قيل : فعلى هذا تكون السماء مستديرة وقد اتفق أكثر المفسرين على أن السماء مبسوطة لها أطراف على جبال وهي كالسقف المستوي ويدل عليه قوله تعالى ﴿والسقف المرفوع﴾، (الطور : ٥)
أجاب الرازي : بأنه ليس في النصوص ما يدل دلالة قاطعة على كون السماء مبسوطة غير مستديرة بل الدليل الحسي على كونها مستديرة فوجب المصير إليه والسقف المقبب لا يخرج عن كونه سقفاً وكذلك على جبال.
ومن الأدلة الحسية أن السماء لو كانت مستوية لكان ارتفاع أول النهار ووسطه وآخره مستوياً، وليس كذلك وذكر غير ذلك من الأدلة وفي هذا كفاية، ولما ذكر لها فعل العقلاء من كونها على نظام محرر لا يختل وسير مقدر لا يعوج ولا ينحل جمعها جمعهم بقوله تعالى :﴿يسبحون﴾ وقال المنجمون : قوله تعالى ﴿يسبحون﴾ يدل على أنها أحياء ؛ لأن ذلك لا يطلق إلا على العاقل قال الرازي : إن أرادوا القدر الذي يكون منه التسبيح فنقول به ؛ لأن كل شيء يسبح بحمده وإن أرادوا شيئاً آخر فلم يثبت ذلك والاستعمال لا يدل كما في قوله تعالى في حق الأصنام ﴿ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون﴾ (الصافات : ٩١ ـ ٩٢)
ولما ذكر سبحانه وتعالى ما حد له حدوداً في السباحة في وجه الفلك ذكر ما هيأ به من الفلك
٤٢٨
للسباحة على وجه الماء بقوله تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٢٣
﴿وآية لهم﴾ أي : على قدرتنا التامة ﴿أنا﴾ أي : على ما لنا من العظمة ﴿حملنا ذريتهم﴾ أي : آباءهم الأصول، قال البغوي : واسم الذرية يقع على الآباء كما يقع على الأولاد والألف واللام في قوله تعالى ﴿في الفلك﴾ للتعريف أي : فلك نوح عليه الصلاة والسلام وهو مذكور في قوله تعالى ﴿واصنع الفلك بأعيننا﴾ (هود : ٣٧)


الصفحة التالية
Icon