وهو معلوم عند العرب ثم وصف الفلك بقوله تعالى :﴿المشحون﴾ أي : الموقر المملوء حيواناً وناساً وهو يتقلب في تلك المياه التي لم ير أحد قط مثلها ولا يرى أيضاً ومع ذلك فسلمها الله تعالى، وأيضاً الآدمي يرسب في الماء ويغرق فحمله في الفلك وقع بقدرته تعالى لكن من الطبيعيين من يقول : الخفيف لا يرسب ؛ لأنه يطلب جهة فوق فقال ﴿الفلك المشحون﴾ أثقل من الثقال التي ترسب ومع هذا حمل الله الإنسان فيه مع ثقله.
وقال أكثر المفسرين : إن الذرية لا تطلق إلا على الولد وعلى هذا فالمراد : إما أن يكون الفلك المعين الذي كان لنوح عليه الصلاة والسلام وإما أن يكون المراد الجنس كقوله تعالى ﴿وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون﴾ (الزخرف : ١٢)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٢٩
وقوله تعالى ﴿وترى الفلك فيه مواخر﴾ (فاطر : ١٢)
وقوله تعالى ﴿فإذا ركبوا في الفلك﴾ (العنكبوت : ٦٥)
إلى غير ذلك من استعمال لام التعريف في الفلك لبيان الجنس، فإن كان المراد : سفينة نوح عليه السلام ففيه وجوه.
الأول : أن المراد حملنا أولادهم إلى يوم القيامة في ذلك الفلك ولولا ذلك ما بقي للأب نسل ولا عقب وعلى هذا فقوله تعالى ﴿حملنا ذريتهم﴾ إشارة إلى كمال النعمة أي : لم تكن النعمة مقتصرة عليكم بل متعدية إلى أعقابكم إلى يوم القيامة وهذا قول الزمخشري قال ابن عادل : ويحتمل أن يقال : إنه تعالى إنما خص الذرية بالذكر ؛ لأن الموجودين كانوا كفاراً لا فائدة في وجودهم فقال تعالى ﴿حملنا ذريتهم﴾ أي : لم يكن الحمل حملاً لهم وإنما كان حملاً لما في أصلابهم من المؤمنين كمن حمل صندوقاً لا قيمة له وفيه جواهر قيل : إنه لم يحمل الصندوق وإنما حمل ما فيه.
ثانيها : أن المراد بالذرية الجنس أي : حملنا أجناسهم ؛ لأن ذلك الحيوان من جنسه ونوعه والذرية تطلق على الجنس ولذلك تطلق على النساء لنهي النبي ﷺ عن قتل الذراري أي : النساء لأن المرأة، وإن كانت صنفاً غير صنف الرجل لكنها من جنسه ونوعه يقال : ذرارينا أي : أمثالنا.
ثالثها : أن الضمير في قوله تعالى ﴿وآية لهم الليل﴾ للعباد وكذا ﴿وآية لهم أنا حملنا ذريتهم﴾ وإذا علم هذا فكأنه تعالى قال : وآية للعبادة أنا حملنا ذرية العباد ولا يلزم أن يكون المراد بالضمير في الموضعين أشخاصاً معينين كقوله تعالى ﴿ولا تقتلوا أنفسكم﴾ (النساء : ٢٩)
﴿ويذيق بعضكم بأس بعض﴾ و (الأنعام : ٦٥)
لذلك إذا تقاتل قوم ومات الكل في القتال فقال هؤلاء القوم : هم قتلوا أنفسهم فهم في الموضعين يكون عائداً إلى القوم ولا يكون المراد أشخاصاً معينين بل المراد أن بعضهم قتل بعضهم فكذلك قوله تعالى ﴿وآية لهم﴾ أي : آية لكل بعض منهم أنا حملنا ذرية كل بعض منهم أو ذرية بعض منهم وإن قلنا المراد : جنس الفلك قال ابن عادل : وهو الأظهر ؛ لأن
٤٢٩
سفينة نوح عليه السلام لم تكن بحضرتهم ولم يعلموا من حمل فيها فأما جنس الفلك فإنه ظاهر لكل أحد.
وقوله تعالى في سفينة نوح عليه السلام ﴿وجعلناها آية للعالمين﴾ (العنكبوت : ١٥)
أي : بوجود جنسها ومثلها ويؤيده قوله تعالى ﴿ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور﴾ (لقمان : ٣١)، فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى ﴿وآية لهم الأرض الميتة﴾ ﴿وآية لهم الليل﴾ ولم يقل : وآية لهم الفلك ؟
أجيب : بأن حملهم في الفلك هو العجب أما نفس الفلك فليس بعجيب ؛ لأنه كبيت مبني من خشب وأما نفس الأرض فعجيب ونفس الليل فعجيب لا قدرة لأحد عليهما إلا الله.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٢٩
فإن قيل : قال تعالى ﴿وحملناكم في البر والبحر﴾ (الإسراء : ٧٠)
ولم يقل : ذريتكم مع أن المقصود في الموضعين بيان النعمة لا دفع النقمة. أجيب : بأنه تعالى لما قال ﴿في البر والبحر﴾ عم الخلق جميعاً ؛ لأن ما من أحد إلا وحمل في البر والبحر، وأما الحمل في البحر فلم يعم فقال : إن كنا ما حملناكم بأنفسكم فقد حملنا من يهمكم أمره من الأولاد والأقارب والإخوان والأصدقاء، وقرأ نافع وابن عامر بألف بعد الياء التحتية وكسر الفوقانية على الجمع، والباقون بغير ألف وفتح الفوقانية على الإفراد واختلف في تفسير قوله تعالى :
﴿وخلقنا لهم من مثله﴾ أي : من مثل الفلك ﴿ما يركبون﴾ فقال ابن عباس : يعني الإبل فالإبل في البر كالسفن في البحر وقيل : أراد به السفن التي عملت بعد سفينة نوح عليه السلام على هيأتها، وقال قتادة والضحاك وغيرهما : أراد به السفن الصغار التي تجري في الأنهار كالفلك الكبار في البحار.
﴿وإن نشأ﴾ أي : لأجل ما لنا من القوة الشاملة والدرة التامة ﴿نغرقهم﴾ أي : مع أن هذا الماء الذي يركبونه ليس كالماء الذي حملنا آباءهم ﴿فلا صريخ لهم﴾ أي : مغيث لهم لينجيهم مما نريد بهم من الغرق أو فلا إغاثة كقولهم : أتاهم الصريخ ﴿ولا هم﴾ أي : بأنفسهم من غير صريخ ﴿ينقذون﴾ أي : يكون لهم إنقاذ أي : خلاص لأنفسهم أو غيرها.


الصفحة التالية
Icon