﴿إلا رحمة﴾ أي : فنحن ننقذهم إن شئنا رحمة ﴿منا﴾ أي : لهم لا وجوباً علينا ولا لمنفعة تعود منهم إلينا ﴿ومتاعاً﴾ أي : وتمتيعنا إياهم بلذاتهم ﴿إلى حين﴾ أي : إلى انقضاء آجالهم.
﴿وإذا قيل لهم﴾ أي : من أي : قائل كان ﴿اتقوا ما بين أيديكم﴾ أي : من عذاب الدنيا كغيركم ﴿وما خلفكم﴾ من عذاب الآخرة ﴿لعلكم ترحمون﴾ تعاملون معاملة المرحوم بالإكرام، وقال ابن عباس رضي الله عنهما ما بين أيديكم يعني : الآخرة فاعملوا لها وما خلفكم يعني : الدنيا فاحذروها ولا تغتروا بها، وقال قتادة ومقاتل : ما بين أيديكم وقائع الله فيمن كان قبلكم من الأمم وما خلفكم عذاب الآخرة.
تنبيهان : أحدهما :﴿إلا رحمة﴾ منصوب على المفعول له وهذا مستثنى مفرغ وقيل : مستثنى منقطع وقيل : على المصدر بفعل مقدر وقيل : على إسقاط الخافض أي : إلا برحمة والفاء في قوله تعالى ﴿فلا صريخ لهم﴾ رابطة لهذه الجملة بما قبلها، فالضمير في لهم عائد على المغرقين.
ثانيهما : جواب إذا محذوف تقديره أعرضوا يدل عليه قوله تعالى بعده ﴿إلا كانوا عنها معرضين﴾ وعلى هذا فلفظ كانوا زائد.
﴿وما تأتيهم من آية من آيات ربهم﴾ أي : المحسن إليهم ﴿إلا كانوا﴾ أي : مع كونها من عند
٤٣٠
من غمرهم إحسانه وعمهم فضله وامتنانه ﴿عنها معرضين﴾ أي : دائماً إعراضهم.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٢٩
وإذا قيل لهم﴾ أي : من أي : قائل كان ﴿أنفقوا﴾ أي : على من لا شيء له شكراً لله على ما أعطاكم قال ﷺ "هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم" "إنما يرحم الله تعالى من عباده الرحماء".
وبين تعالى أنهم يبخلون بما لا صنع لهم فيه بقوله تعالى :﴿مما رزقكم الله﴾ أي : مما أعطاكم الله الذي له جميع صفات الكمال ﴿قال الذين كفروا﴾ أي : ستروا وغطوا ما دلهم عليه أنوار عقولهم من الخيرات ﴿للذين آمنوا﴾ أي : استهزاء بهم ﴿أنطعم من لو يشاء الله﴾ أي : الذي له جميع العظمة كما زعمتم في كل وقت يريده ﴿أطعمه﴾ وذلك أن المؤمنين قالوا لكفار مكة : أنفقوا على المساكين مما زعمتم من أموالكم أنه لله سبحانه وتعالى، وهو ما جعلوه لله من حروثهم وأموالهم قالوا ﴿أنطعم من لو يشاء الله أطعمه﴾ لكنا ننظره لا يشاء ذلك، فإنه لم يطعمهم مما ترى من فقرهم فنحن أيضاً لا نشاء ذلك موافقة لمراد الله تعالى فيه فتركوا لتأدب مع الأمر وأظهروا التأدب مع بعض إرادة الله المنهي عن الجري معها والاستسلام لها، وهذا مما يتمسك به البخلاء يقولون : لا نعطي من حرمه الله تعالى وهذا الذي يزعمونه باطل ؛ لأن الله تعالى أغنى بعض الخلق وأفقر بعضهم ابتلاء فمنع الدنيا عن الفقير لا بخلاً وأمر الغني بالإنفاق لا حاجة إلى ماله ولكن ليبلوا الغني بالفقير فيما فرض له في مال الغني، فلا اعتراض لأحد في مشيئة الله وحكمه في خلقه وما كفاهم حتى قالوا لمن أرشدهم إلى الخير ﴿إن﴾ أي : ما ﴿أنتم إلا في ضلال﴾ أي : محيط بكم ﴿مبين﴾ أي : في غاية الظهور وما دروا أن الضلال إنما هو لهم.
فإن قيل : قولهم ﴿من لو يشاء الله أطعمه﴾ كلام حق فلماذا ذكر في معرض الذم ؟
أجيب : بأن مرادهم كان الإنكار لقدرة الله تعالى أو لعدم جواز الأمر بالإنفاق مع قدرة الله تعالى وكلاهما فاسد فبين ذلك تعالى بقوله سبحانه ﴿مما رزقكم الله﴾ فإنه يدل على قدرته ويصحح أمره بالإعطاء ؛ لأن من كان له مع الغير مال وله في خزانته مال مخير إن أراد أعطى مما في خزانته وإن أراد أمر من عنده المال بالإعطاء ولا يجوز أن يقول من في يده مال في خزانتك أكثر مما في يدي أعطه منه.
فإن قيل : ما الحكمة في تغيير اللفظ في جوابهم حيث لم يقولوا : أننفق على من لو يشاء الله رزقه ؛ لأنهم أمروا بالإنفاق فكان جوابهم أن يقولوا : أننفق فلم قالوا : أنطعم ؟
أجيب : بأن هذا بيان غاية مخالفتهم ؛ لأنهم إنما أمروا بالإنفاق والإنفاق يدخل فيه الإطعام وغيره فلم يأتوا بالإنفاق ولا بأقل منه وهو الإطعام وهذا كقول القائل لغيره : أعط زيداً ديناراً فيقول : لا أعطيه درهماً مع أن المطابق هو أن يقول : لا أعطيه ديناراً ولكن المبالغة في هذا الوجه أتم فكذلك هنا.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٢٩
تنبيه : إنما وصفوا المؤمنين بأنهم في ضلال مبين لظنّهم أن كلام المؤمنين متناقض ومن تناقض كلامه يكون في غاية الضلال، قال الرازي : ووجه ذلك أنهم قالوا {أنطعم من لو يشاء الله
٤٣١